post

الدوحة تحتضن العالم.. فماهي رسائل مونديال قطر؟

آراء الخميس 24 نوفمبر 2022

كتب الأستاذ والباحث الجامعي التونسي، أنور الجمعاوي مقالا بعنوان 'رسائل مونديال قطر' نشر الخميس 24 نوفمبر 2022 في العربي الجديد وجاء في تفاصيله ما يلي:

كأس العالم لكرة القدم مهرجان رياضي، تنافسي، عريق، تنشدّ إليه الأنظار، وتهفو إليه القلوب، وتشدّ إليه الرحال. ويكتسب أهمّيته من بعده الكوني، وطابعه الفنّي، وثرائه الفرجوي. فالحدث مناسبة تتكرّر كلّ أربع سنوات منذ سنة 1930، ويتنافس خلاله 32 فريقاً من القارّات الخمس للفوز بتاج الساحرة المستديرة.

ويحظى، منذ نشأته، بحضور جماهيري مكثّف، وتغطية إعلامية واسعة، لأنّ مداره اللعبة الأكثر شعبية في العالم. وتتنافس البلدان الصاعدة على الترشّح لكأس العالم والفوز به، كما تتنافس بشدّة على الظفر بشرف تنظيمه. ذلك أنّ استضافة المونديال فرصة مهمّة ونادرة تمكّن البلد المضيف من تحقيق عوائد اقتصادية معتبرة، وإظهار مهاراته التنظيمية وقدراته الإبداعية، ومنتجاته الثقافية والحضارية، وتجعله محطّ أنظار العالم شهراً كاملاً على نحو يزيد من شهرته ويجعله قِبْلة السيّاح خلال البطولة العالمية وبعدها.

ومعروفٌ عن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) صرامته في اختيار البلد المضيف الذي يتعيّن أن يكون على غايةٍ من الجاهزية مادّياً، وفنّياً، ولوجستياً، وأمنياً لاحتضان فعاليات أكبر تظاهرة رياضية عالمية. ويعدّ نجاح دولة قطر في استضافة مونديال 2022 لكرة القدم وإبداعها في تنظيمه حدثاً تاريخياً يحمل عدّة رسائل.

راهن كثيرون في الشرق والغرب إبّان فوز الملف القطري (2010) بشرف تنظيم مونديال 2022 على أنّ الدوحة ستكلّ وتملّ، وستفشل في تحويل الحلم إلى واقع، وأنّ ترشّحها لتنظيم كأس العالم لكرة القدم مغامرة غير مضمونة العواقب، بل مجرّد فرقعة إعلامية وفعل استعراضي، ووهم جميل، لن يتحوّل إلى حقيقة. وبرّروا ذلك بأنّ مساحة البلد صغيرة، ومناخه حارّ، ولن يبذل مالاً كثيراً لتطوير بناه التحتية واللوجيستية وتوفير الظروف المناسبة لإقامة آلاف من عشّاق الكرة الساحرة. وقالوا إنّ العرب ليست لهم سابقة في تنظيم كأس العالم لكرة القدم، ولن يتجاوزوا حدود الفرجة على المحفل الكروي إلى الإشراف على ترتيبه واحتضان فعالياته.

فنّدت قطر تلك الأحكام المسبقة، والدعاوى المتهافتة، وفاجأت الجميع بتنظيمٍ باهرٍ للمسابقة الرياضية الأكبر والأشهر في العالم، فقد وفّرت لسكانها وزوّارها كلّ خدمات القُرب، وأسباب المتابعة الماتعة للنسخة الجديدة من المونديال. خذ مثلاً إنشاء ملاعب متقاربة، غاية في الروعة من جهة إخراجها المعماري، قابل بعضها للتفكيك وإعادة التركيب، وتأمين تبريدها وتكييفها بشكل مستدام، وتأمين النقل، والتداوي مجاناً لزوّار الدوحة خلال البطولة العالمية، ورقمنة جلّ الخدمات في زمن التشبيك الإلكتروني على نحوٍ يسمح لكل مستخدم بالحصول على معظم طلباته عبر هاتفه، فضلاً عن استقدام فنادق عائمة، تشتمل على آلاف الغرف، ومجهّزة بكلّ المرافق الضرورية والترفيهية، وإتاحة تطبيق مجّاني، يسمح للذين يعانون مشكلاتٍ بصرية بمتابعة كلّ المباريات وحفلتَي الافتتاح والختام، من خلال تأمين وصف صوتي باللغتين العربية والإنكليزية، وتخصيص غرف حسّية في بعض الملاعب للمصابين بالتوحّد، فيها كلّ لوازم الراحة والاسترخاء لمتابعة مباريات المونديال على نحو ضمن توسعة دائرة الجمهور المتابع للبطولة لتشمل ذوي الاحتياجات الخاصّة، فتحقق مطلب وصول الجميع إلى الملعب، وبدا أنّ التمتّع بالعرس الكروي أعدل الأشياء قسمةً بين الناس.

وبعثت تلك القدرات التنظيمية الهائلة، وتلك الجاهزية العالية لوجيستياً، وخدميّاً، وفنياً، وإدارياً، إلى العالم رسالة مفادها بأنّ المواطن القطري/ الخليجي خصوصاً، والعربي عموماً، عنصر بنّاء، وكائن فاعل، ومواطن قادر على تنظيم أكبر التظاهرات الأممية بكفاءةٍ وجدارة، فبان للعالم أنّ العربي ليس عاجزاً، ولا قاصراً، ولا متواكلاً أو متكاسلاً، بل كائن حيويّ، قادر على تقديم الإضافة الإيجابية إلى العالم.

واللافت أن مشروع التحديث الشامل في قطر ليس نقيضاً لهوية المجتمع المحلي، بل هو من روافدها، ومن مكوناتها، فقد مثّل المونديال فرصة للمزاوجة بين الأصالة والحداثة والتجديد في غير اغتراب عن الإرث الثقافي للبلد المضيف. وكان واضحاً أنّ المهرجان الكروي العالمي في الدوحة أتاح فرصةً كبرى للتثاقف والتنافذ بين الأفراد والجماعات على اختلاف أعمارهم، وألوانهم ومراجعهم العرقية، والإثنية، والدينية، والطبقية والأيديولوجية. وبدت الدوحة عاصمة تعدّدية بامتياز. احتضنت العالَم، فتنوّعت الأعلام والأزياء واللغات، والطقوس والأفكار والعادات، والأهازيج والتمائم والرقصات داخل الملاعب وخارجها، وتعايش الجميع في سلام، في كنف التواصل المفيد والتعارف البنّاء. ودلّ ذلك على أنّ العربي مواطنٌ لا يضيق بالاختلاف، بل يحترم غيرية الآخر، وينفتح عليه ويمدّ جسور التواصل معه. ونقضت تلك المشهدية التعدّدية في بلد عربي صورة نمطية أدمنت جماعات رجعية، وحركات يمينية متطرّفة، ترويجها، ومؤدّاها أنّ العربي كائن قروسطي، إقصائي، ماضوي، منغلق على نفسه.

والواقع أنّ حركة التثاقف المفتوح في المونديال مكّنت البلد المضيف أيضاً من التعبير عن ذاته الحضارية، وخصوصيتة الثقافية ذات الامتدادين، العربي والإسلامي. ولذلك تجلّيات عدّة، منها تشييد بعض ملاعب المونديال بطريقة فنية هندسية أصيلة، مستوحاة من البيئة القطرية والتراث الخليجي وفنّ العمارة الإسلامي.

فملعب البيت اسمه مستلهم من بيت الشعر، واتخذ شكل خيمةٍ كبيرة، تحاكي الخيام التي سكنها أهل البادية في قطر ومنطقة الخليج العربي. والتصميم المعماري الرائع لملعب الجنوب مستوحى من أشرعة المراكب التقليدية القطرية، ويشابه ملعب أحمد بن علي الصحراء وكثبانها. أمّا ملعب الثمامة، ففي شكل قحفية تقليدية (الطاقية التي تلبس تحت الغترة والعقال)، وهي لباس يرتديه الرجال والأطفال في المنطقة. فيما شُيِّد ملعب المدينة التعليمية وسط جامعات عالمية عدة، مستقرّة بقطر، وهو في شكل ماسة مسنّنة، غاية في الجمال. وبذلك راوح الإبداع المعماري بين الأصالة والحداثة، وحاكى سيرة الإنسان والمكان في بلاد العرب.

وفي السياق نفسه، كانت تميمة المونديال (لعّيب)، ظريفة، معرّفة بالزي الخليجي (حطّة، عقال)، باعثة البهجة في النفوس. كذلك وضعت بعض فنادق الدوحة "باركود" في غرفها للتعريف بالإسلام بلغات عدة خلال بطولة كأس العالم، وتزيّنت شوارع في الدوحة وجوارها بلافتات ولوحات وجداريات، تضمّنت آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوالاً مأثورة وأبياتاً من الشعر العربي، مترجمة إلى الإنكليزية. فأقوال النبي مثل: "كلّ معروف صدقة"، "من لا يَرحم، لا يُرحم"، "يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ علَى الكَبِيرِ، والمارُّ علَى القاعِدِ، والقَلِيلُ علَى الكَثِيرِ"، والمأثور عن علي بن أبي طالب: "الكتب بساتين العلماء"، وبيت المتنبّي: "عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ/ وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ"، كلّها رسائل بيانية عربية، تفيض بمعاني التراحم والود والتسامح، وتعبّر عن ثراء المتن الثقافي والرصيد الأخلاقي للأمّة العربية والإسلامية بقيم نبيلة. وجسّد البلد المضيف تلك القيم من خلال إمعانه في إكرام الضيف، والاحتفاء به، وبذل الجهد من أجل إسعاده.

كذلك أخبر استهلال حفل افتتاح كأس العالم بالآية القرآنية: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"(الحجرات/ 13) بأصالة ثقافة الاختلاف والانفتاح على الآخر في السياق الإسلامي. ومن ثمّة، الرسالة الأبرز في هذا المستوى تعريف الوافدين وعموم المتابعين بملامح نيّرة من المنجز الحضاري العربي والإسلامي، والإخبار بأنّ الانخراط في مشروع التحديث ممكن في غير انبتات عن المهاد الهووي الذاتي.

على صعيد آخر، بان جليّاً من خلال مونديال قطر أنّ النجاح ليس حكراً على الغرب كما تروّج ذلك مقولات المركزية الثقافية الأوروبية، وليس الشرق مختزلاً في "حكايات ألف ليلة وليلة"، و"الجماعات الإرهابية"، "والبترو دولار"، وغير ذلك من سرديات اليمينيين والمستشرقين المتحاملة على المجتمعات المحلية، فالشرقي عموماً والعربي خصوصاً ليس بالضرورة كائناً بدوياً، ولا إرهابياً، ولا خرافياً، يعيش خارج التاريخ، بل كائنٌ مدني، حيوي، يساهم على طريقته وبذائقته الجمالية والهووية المميّزة في صياغة المشهد التثاقفي والحداثي الكوني.

والثابت أن مونديال 2022 لبنة أخرى من لبنات بناء القوّة القطرية الناعمة، وهو من أفضل قنوات الدبلوماسية الثقافية والرياضية. وتكفي الإشارة إلى أنّ زهاء ثلاثة ملايين مشجع حجزوا تذاكرهم ليشهدوا المهرجان الكروي الأممي في الدوحة، وشارك في تنظيمه 20 ألف متطوّع من مختلف أنحاء العالم، ونقل فعالياته حوالى 12 ألف إعلامي وفنّي ومصوّر، وتابعه زهاء أربعة مليارات متفرج عبر القنوات الإعلامية والتلفزية وشبكات التواصل الاجتماعي. وهؤلاء جميعاً سفراء قطر، وسيحدّثون العالم عن قصّة نجاح عربية في تنظيم مونديال الدوحة، وهو ما سيساهم، إلى حدّ معتبر، في تفنيد مغالطات كثيرة عن العرب والمسلمين وعموم المشارقة.

ختاماً، يتخفّف العالم في مونديال قطر2022 نسبياً من وطأة السياسة، وتراجيديا الحروب، وحيف العنصرية، وسطوة الاستلاب والتضليل، ويستعذب الناس لذّة التلاقح الثقافي والإبداع الكروي. وفي الأثناء، بإمكان العالم أن يكتشف عن قُرب فضائل العرب والمسلمين في دوحة الخير، دوحة العالم.

افتتاح.jpg

You might also like!