"أحبّك يا شعب" .. في ذكرى اغتيال من أحبّ التونسيّين فأحبّوه

فيديو الأحد 05 ديسمبر 2021

مرآة تونس - هزار الفرشيشي 

حين ألقي بـ "حمدة السرايري" في سجون الاستعمار، بلغه ورفاقه نبأ هزّ وجدانهم، فأنشدوا: 
"خبر الممات كيف جانا .. خبر الممات 
خبر الممات .. ڨصدنا ربي في فرحات 
كيف جانا" 
هكذا أشار المخرج التونسي الراحل، صلاح الدين الصيد، إلى حادثة اغتيال الزعيم النقابي، فرحات حشاد، في مسلسل "قمرة سيدي المحروس" الذي بثّ في شهر رمضان سنة 2001، وهو أحد أهمّ الأعمال الدرامية التي وثّقت حقبة مهمة من تاريخ الحركة الوطنية في وجه المستعمر الفرنسي. 
و"خبر الممات كيف جانا" هو رثاء شعبي ارتجلته إحدى النسوة بمنطقة الجم بالساحل التونسي إثر سماعها نبأ الاغتيال، وانتقل صداها إلى سجون الاستعمار آنذاك بين المقاومين المعتقلين. فترة نجح صانع قمرة سيدي محروس في رسم ملامحها وفي إبراز أثر الفاجعة على التونسيين من خلال مشهد السجن. 


وتواصل اللطمية الإيغال في عمق الألم بتعداد مناقب مؤسّس الاتحاد العام التونسي للشغل وبوصف الوحشية التي اغتيل بها بالقول: 
"حشاد الحنين على شعبه .. ضربوه مسكين 
بين العينين .. وزادوه في الڨلب الضربة 
كثرت الأحزان يا اخواني .. كثرت الأحزان 
كثرت الأحزان .. لڨوه ملوّح في نعسان كيف جانا  
خبر الممات كيف جانا .. خبر الممات" 


1952 .. سنة الكفاح المسلّح 

 

كانت السنة الحاسمة التي تقرر فيها، في سابقة في تاريخ الحزب الحرّ الدستوري، تبني الكفاح المسلّح رسميا بكافة الوسائل في كل أرجاء البلاد التونسية، حيث خطب الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة من بنزرت بتاريخ 13 جانفي 1952 ودعا إلى الثورة المسلحة. 
قررت السلطات الاستعمارية مواجهة الأوضاع بالضرب بقوّة، فعينت الجنرال "جان دي هوتكلوك " مقيما عاما بتونس، وحلّ بالأراضي التونسية في باخرة حربيّة من ميناء بنزرت يوم 13 جانفي 1952، وأوّل ما قام به دي هوتكلوك كان اعتقاله زعماء الحركة الوطنيّة وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة والمنجي سليم فجر 18 جانفي واستبعدا إلى طبرقة، فيما شرّد ونفي عدد كبير من مناضلي الحركة، كما قام المقيم العامّ الجديد بإصدار قرارات بتحجير الاجتماعات العامة والتظاهر ومنع الحزب من عقد مؤتمره المقرر ليوم 18 جانفي 1952. 
رغم تلك الأحداث لاسيما قرار المنع وغياب أبرز القيادات، إلا أن مؤتمر الحزب قد انعقد سرّيّا في موعده المقرر، أي 18 جانفي، برئاسة الشهيد الهادي شاكر حسب توصية بورقيبة، وتم إصدار لائحة تاريخية نصّت على "عدم الاعتراف بالحماية والمطالبة باستقلال تونس وتنظيم العلاقات بين تونس وفرنسا على أساس الاحترام المتبادل وحماية الجاليات الأجنبية". 
كان لتلك الوثيقة أثر بالغ، فكان الثامن عشر من ذلك الشهر تاريخا مفصليا عرفت به الحركة الوطنية منعرجا تاريخيا، إذ تصاعدت على إثر صدورها المواجهات مع المستعمر الفرنسي وعمّت المظاهرات الشعبية أرجاء البلاد التونسية لتوغل السلطات الاستعمارية في قمع التحركات باختلاف مصادرها وباختلاف الأحزاب والتنظيمات الوطنية، وزجّ بآلاف التونسيين في السجون المدنية والعسكرية والثكنات، وتعرّضوا إلى أشد وسائل التعذيب وأكثرها بشاعة، كما صدرت أحكام قضائية قاسية بين إعدامات وأشغال شاقة في حق حوالي ثلاثة آلاف تونسي. 


وبتطور الأحداث، سرعان ما تكوّن الدّيوان السياسي الثاني للحزب الدّستوري الجديد برئاسة الهادي نويرة وعضويّة ممثلي المنظّمات الوطنيّة. وتولى فرحات حشّاد القيادة السياسيّة الفعليّة، وقد اعترف الحزب بهذه القيادة السياسيّة، وقد ورد في إحصائيّة بالأرقام والصور نشرها الحزب بعنوان "سجل الشهداء" ما يلي عن دور حشّاد:  
"في جانفي 1952 وعند اعتقال المجاهد الأكبر ورفاقه بقي فرحات حشّاد طليقا حيث لم تستطع السّلطات الفرنسيّة اعتقاله نظرا لصيغته النقابيّة وما يتمتع به من مكانة ممتازة في الأوساط النقابيّة الدوليّة، وخاصّة أنّه كان مسؤولا في الجامعة العالميّة للنقابات … وقد وجد فرحات نفسه بعد اغتيال قادة الأمّة مسؤولا عن قيادة الثّورة سرا وجهرا، فإلى جانب عمله في الدّاخل كان يعمل في الخارج يجلب الأنصار للقضيّة الوطنيّة في المحافل النقابيّة في العالم. وأمام هذا الجهاد المستميت الثّوري ضاق ذرع الاستعمار وغلاته من عصابة اليد الحمراء ذرعا بفرحات فبعثوا له برسائل تهديد ليكف عن نشاطه السياسي ولكنّه لم يعبأ بكلّ ذلك، وفي يوم الجمعة 5 ديسمبر 1952 اغتيل فرحات العظيم بواسطة اليد الحمراء الأثيمة". 
وفي الجزء الثاني من كتابه "الحركة النقابيّة الوطنيّة الشغيلة بتونس 1924-1956"، يقول عبد السلام بن حميدة: "إنّه بغياب بورقيبة الذي كان منفيا آنذاك كان حشّاد رمز المقاومة ومنشّطها الرّئيسي، لكن السّلطات لا تجرأ على إيقافه مخافة تعقدّ الأمور على المستوى العالمي". 


زعيم وطني ذو إشعاع عالمي .. حين ضاق الاستعمار ذرعا بحشّاد 

 

هدّد فرحات حشّاد في سلامته الجسدية وفي سلامة عائلته، لكن الوطن كان لديه أغلى وأسمى من كل الاعتبارات، فواصل مضيّه قدما في النضال ضد الاستعمار على مستويين: خارجيا عبر التعريف بالمنظّمة الشغيلة وربط الأواصر مع المنظمات العمّالية العالمية، ما ساعد في التعريف بالقضيّة الوطنيّة التونسيّة على صعيد دولي. وداخليا بالسعي الحثيث إلى وصل الحركة النقابيّة بالحركة الوطنيّة، وهو ما وسّع من دائرة النضال وقوّى شوكة المقاومة ضدّ السلطات الفرنسية الاستعمارية، وأعطى للحركة الوطنيّة بعدا تحرّريا اجتماعيا موحّدا بذلك كافّة أطياف الشعب التونسي وهو ما جسّده في قوله "أحبّك يا شعب!"، وهذا ما كانت فرنسا تخشاه. فحشاد الذي توفي والده مبكّرا قد أنهى تعليمه الابتدائي والتحق مبكّرا بسوق الشغل ليلتحم بالطبقة الكادحة، ما نمّى لديه وعيا شديدا بهمومها ومشاغلها، وكان القائد الذي رأب الشرخ الاجتماعي الذي عمل الاستعمار على مزيد توسيعه وتكريسه.
ومع تسارع الأحداث، أصبح الكفاح المسلّح سيّد الموقف لدى التونسيين في وجه فرنسا، إذ كثرت الإضرابات والهجمات المسلّحة، علاوة على طلب حشّاد باسم الاتّحاد العامّ التونسي للشّغل من اللّجنة العالميّة ضدّ القمع إجراء تحقيق عن ظروف اعتقال المناضلين في السّجون في كامل البلاد، وقد توّلى الأمين العام المساعد للمنظّمة الشغيلة، محمود المسعدي، يوم 27 فيفري 1952، وهو بباريس تقديم ملّف كامل يحتوي على وثائق دقيقة عن القمع وعن السّجون والمحتشدات التّي أقامها الاستعمار في كامل البلاد التونسيّة. أحداث أثارت مخاوف فرنسا وأجّجت غضبها من حشّاد، فصدرت الأوامر بتصفيته.


الاغتيال 

 

"لقد كان أخطر زعماء الحركة الوطنية التونسية، وخاصة من الناحية السياسية .. كما أنه يجمع الكثير من المواطنين وكان سيمسك بالسلطة لو ظل حيا". هكذا تحدث الفرنسي الراحل "أنطوان ميليرو" إلى قناة الجزيرة في وثائقي أنجزته عن اغتيال فرحات حشاد سنة 2009، مضيفا: "أعتقد أن ما قمنا به عمل شرعي، ولو كان ينبغي عليّ إعادته سأعيده!". 
وبسؤاله عن تصريحات ميليرو، قال نور الدين حشّاد، الابن البكر للشهيد حشّاد، منذ أيام في حوار أجراه معه موقع "بوّابة تونس" عن دور أنطوان ميليرو في عملية الاغتيال: "سأكشف للمرة الأولى هنا عن حقيقة أنطوان ميليرو، الذي لا علاقة له بعملية الاغتيال بتاتا، ولم يكن مشاركا فيها وذلك بناء على المعلومات التي توصلتُ إليها إلى جانب لقائي به في باريس منذ عدة سنوات قبل وفاته". وأعلن حشّاد الابن أن ميليرو كان يخدم بالمصالح الفرنسية المختصة بالمغرب خلال الخمسينيات، وانضم إلى عصابة استعمارية مناهضة لاستقلال هذا البلد عن الهيمنة الفرنسية على شاكلة عصابة اليد الحمراء في تونس، أما عن ظهوره الإعلامي وتصريحاته لقناة الجزيرة، فقد اعتبر أنهما من قبيل "التبجح الفارغ في محاولة لتسليط الأضواء عليه! كما سعى إلى إصدار كتاب عن عملية الاغتيال مستعينا بالمعلومات المتوفرة لديه بحكم عمله سابقا بالمصالح المختصة". 
وتعود حادثة اغتيال حشّاد إلى الخامس من ديسمبر 1952، حيث استهدف الزّعيم الوطني من قبل مسلّحين وهو يقود سيّارته في طريقه إلى المقرّ المركزي لاتحاد الشغل نقلوه بعدها وأجهزوا عليه بمنطقة نعسان، ليقع العثور على جثّته وهي تحمل آثار الرصاص.   


وبانتشار خبر الاغتيال، واجهت السلطات الاستعمارية موجة غضب شعبي عارمة. ولم يقف الغضب الشعبي عند الحدود التونسية، بل شهدت عدّة عواصم ومدن في مختلف دول العالم احتجاجات وتحرّكات مندّدة بالعملية، إلى درجة تحوّل الأمر إلى ثورة مسلّحة في المغرب الأقصى. ففرحات حشاد الذي أقضّ مضجع فرنسا داخل تونس حيّا، ألهب صدور جماهير العالم الحر وقوّى شوكة المقاومة ضد المستعمر خارج تونس ميتا، وسيظل اسمه يحلّق عاليا في سماء كل الشعوب الحرة. 


عقود على الجريمة .. 

 

سنة 2013، وفي سابقة من نوعها، زار الرئيس الفرنسي السابق "فرانسوا هولاند" عائلة الشهيد فرحات حشّاد، في بادرة رمزية كأول رئيس فرنسي يقرّ بمسؤولية بلاده عن الاغتيال، وقدّم إلى أبنائه وإلى زوجته الراحلة، آمنة حشاد المكنّاة بأمّ الخير، وثائق من الأرشيف تتعلّق بالقضية. وحسب الابن نور الدّين حشاد، فقد تضمنت الوثائق المسلّمة جملة من المعطيات المهمة التي تثبت أن والده كان طوال الفترة التي سبقت عملية الاغتيال محل مراقبة ومتابعة من قبل المصالح السرية الفرنسية بشكل دقيق، إذ تضمنت الوثائق تقارير عن خط سيره اليومي واتصالاته ومواعيد خروجه من المنزل صباحا وتوقيت عودته وغيرها من المعطيات. 
ويذكر أن الرئيس الفرنسي الحالي "مانويل ماكرون" قد قرّر، في شهر مارس الماضي، تسهيل الوصول إلى محتويات الأرشيف السري المتعلّق بالحقبة الاستعمارية والذي يزيد عمره عن خمسين عاما، وذلك عملا بتوصيات المؤرخ الفرنسي "بنجامان ستورا"، الذي عمل على تقرير حول ذاكرة الحرب الجزائرية وقدمه إلى ماكرون في العشرين من جانفي الماضي وأوصى بإرسال إشارات تهدئة إلى الجزائر. حيث تطالب الجزائر باريس منذ سنوات بفتح أرشيف الاستعمار الفرنسي وتسوية قضية المفقودين في حرب الاستقلال، فضلا عن التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية. في المقابل، لم تبد تونس والمغرب مواقف رسمية في هذا الشّأن، ولم يجرؤ أي رئيس تونسي من الرؤساء المتعاقبين على فتح هذا الملف أو بذل الجهود الدبلوماسية والسياسية بهدف الوصول إلى الحقائق حول اغتيال فرحات حشاد. 
 

galleries/farhat-hachat-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً