post

السودان.. وتستمر مقاومة الانقلاب

الشرق الأوسط السبت 25 ديسمبر 2021

أعلنت تنسيقيات "لجان المقاومة" السودانية، أمس الجمعة، أن مواكب اليوم السبت ستحاصر القصر الرئاسي في الخرطوم، للمطالبة بالحكم المدني، فيما أعلنت السلطات السودانية عزمها على إغلاق الجسور في العاصمة.

وقال بيان صحفي لتنسيقيات لجان مقاومة أم درمان الكبرى إن "جميع مواكب أم درمان ستتوجه في مليونية اليوم السبت 25 ديسمبر لمحاصرة القصر الرئاسي في الخرطوم"، و"حددت 4 مسارات للموكب تشمل نقاط حشد، وهي موقف مواصلات جاكسون، ومسجد فاروق، وصينية (دوران) القندول، ومول الواحة (مركز تجاري).

وأشار البيان إلى أن الموكب سينطلق نحو القصر الرئاسي بالخرطوم عند الساعة الواحدة ظهر السبت بالتوقيت المحلي، ودعا إلى المحافظة على سلمية الموكب والتعاون مع لجان التأمين، وعدم الاحتكاك مع القوات النظامية.

وتشكلت "لجان المقاومة" خلال الثورة على نظام عمر البشير، وهي مجموعات شعبية ساهمت في تنظيم الحراك الاحتجاجي، ما أجبر قيادة الجيش على عزل البشير في 11 أفريل 2019.

ودعا "تجمّع المهنيين السودانيين" إلى المشاركة في مظاهرات اليوم، للمطالبة بـ"تأسيس سلطة مدنية كاملة".

من جهتها، أعلنت السلطات السودانية عزمها على إغلاق جسور العاصمة الخرطوم، وجاء ذلك في بيان للجنة أمن ولاية الخرطوم (تضم الجيش، وقوات الدعم السريع، والشرطة، وجهاز المخابرات العامة). وقامت اليوم السبت بقطع الانترنت عن الهواتف المحمولة وذلك قبيل انطلاق المظاهرات.

من جهة أخرى، أعلنت لجنة أطباء، الجمعة، ارتفاع عدد قتلى الانقلاب منذ 25 أكتوبر الماضي إلى 48 قتيلاً. وكشفت اللجنة، في بيان، عن وفاة المواطن حمدي بدرالدين أحمد الفكي (35 عاماً)، إثر "إصابته برصاص حي في الرأس من قبل قوات السلطة الانقلابية خلال مشاركته في مليونية 19 ديسمبر في مواكب محلية الخرطوم". وحملت اللجنة "أجهزة السلطة الانقلابية من مليشياتها ورئيس وزرائها الانقلابي" المسؤولية الكاملة عن قتل المتظاهرين.

وتحدّى عشرات الآلاف من السودانيين، يوم 19 ديسمبر، عبوات الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي وإغلاق الطرق والكباري والجسور، ووصلوا إلى محيط القصر الرئاسي بالعاصمة الخرطوم، وذلك للمطالبة بتنحي الجيش عن السلطة وتسليمها للمدنيين.

وخرج السودانيون، في أكثر من 20 مدينة، بتظاهرات رفضاً للانقلاب العسكري، عبّر خلالها عشرات الآلاف عن رفضهم استمرار الانقلاب العسكري وطالبوا بعودة الحكم المدني.

وكانت لجان المقاومة السودانية دعت إلى مليونية رفضاً للانقلاب العسكري ولاتفاق رئيس الوزراء عبد الله حمدوك مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان قبل نحو شهر، ووجدت الدعوة زخماً سياسياً وإعلامياً أكبر من سابقتها، خصوصاً أنها صادفت مرور 3 سنوات على اندلاع الثورة السودانية في عام 2018، التي أطاحت الرئيس السابق عمر البشير.

ودخلت الثورة السودانية، يوم الأحد 19 ديسمبر، عامها الرابع، وسط مجموعة من تحديات، ازدادت تعقيداً بانقلاب عسكري، يقابله حراك ثوري يصر على إسقاطه ومحاكمته.

واندلعت شرارة الثورة السودانية ضد نظام الرئيس المعزول عمر البشير في 19 ديسمبر 2018 في مدن عطبرة وبورتسودان والدمازين والقضارف ومدن أخرى، قبل أن تنتقل إلى الخرطوم في 25 ديسمبر، بتبني تجمع المهنيين السودانيين لها وتوجيهها سياسياً وميدانياً.

وفي مطلع 2019 انضمت لها أحزاب وتحالفات سياسية وقّعت على ميثاق الحرية والتغيير، وهو التكتل الذي قاد بعد ذلك الحراك الثوري عبر المواكب والتظاهرات، واعتصام محيط القيادة العامة للجيش.

وانتهى الأمر في 11 أفريل 2019 بإعلان القوات المسلحة انحيازها لمطالب الشارع وعزلها للنظام السابق، بكلفة بشرية وصلت إلى نحو 90 قتيلاً. وتلا ذلك مفاوضات بين الجيش وتحالف قوى الحرية والتغيير، لبناء سلطة انتقالية تدير البلاد، إلى حين قيام انتخابات عامة.

وخلال تلك المفاوضات، بدا واضحاً رغبة العسكر في السيطرة والهيمنة والانفراد بالسلطة. ونتيجة لإحساسهم بخطر اعتصام محيط القيادة، كورقة ضغط تستخدمها قوى الحرية والتغيير لتقوية مواقفها التفاوضية، أقدم العسكر على فض الاعتصام في جوان 2019، ما أدى إلى مقتل أكثر من 100 من المعتصمين، وإصابة المئات وفقدان العشرات. ثم أقدم العسكر بعد ذلك على تعليق التفاوض كلياً مع قوى الحرية والتغيير، والتفكير في تشكيل حكومة بمعزل عن الجميع.

وفي ذلك الوقت، لم يرضَ الشارع بالواقع المفروض من قبل المجلس العسكري الانتقالي، برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وأمسك بزمام المبادرة مرة أخرى، بخروجه في مليونية 30 جوان، وما تلاها من حراك.

وأجبر هذا الأمر العسكر على الإذعان لصوت الشارع والقبول بشراكة في السلطة الانتقالية، غالبية أعضائها في مجلس السيادة من المدنيين، وقيام حكومة مدنية بمجلس وزراء ترشحه "الحرية والتغيير"، عدا وزيري الدفاع والداخلية، لتبدأ السلطة الانتقالية عملها في أوت 2019، بموجب وثيقة دستورية وقّعت بين العسكر والمدنيين.

وواجهت الحكومة التي ترأسها الموظف الأممي السابق عبد الله حمدوك مجموعة عقبات، أبرزها ضعف خبرة وزرائها، والإرث الاقتصادي المتدهور، وعقبات أخرى تضعها الدولة العميقة، وأخرى يضعها العسكر أنفسهم، إذ تدفعهم الرغبة القديمة في تصدر المشهد السياسي.

وعلى الرغم من ذلك، حققت حكومة حمدوك الأولى والثانية، نجاحات نسبية، تتصل برفع العقوبات الاقتصادية الدولية عن السودان، وفك العزلة الدولية، ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والحصول على مساعدات مالية من الدول وصناديق التمويل الدولية. ومنتصف العام الحالي، بدأ التعافي الاقتصادي والاستقرار النسبي في سعر الجنيه السوداني مقابل العملات الأخرى، واستقرار مماثل في أسعار السلع، ووفرة في المواد الضرورية.

وفي المقابل، لم تحصد السلطة الانتقالية رضا الشارع لأكثر من سبب، أولها عدم تحقيق العدالة لضحايا الثورة، وفشل لجنة تحقيق وطنية في الوصول لنتائج بشأن فض اعتصام محيط القيادة، واستمرار وجود أصابع النظام القديم في كثير من مفاصل الدولة، عدا عدم إكمال مؤسسات السلطة الانتقالية، مثل المجلس التشريعي والمفوضيات المستقلة، وأسباب أخرى عديدة.

وفي الثالث من أكتوبر 2020 توصلت الحكومة إلى اتفاق مع تحالف باسم "الجبهة الثورية"، الذي يضم عدداً من حركات التمرد في كل من دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، بالإضافة لمسارات مختلفة حول الوسط والشمال والشرق.

وبموجب ذلك الاتفاق انضمت الحركات المسلحة للسلطة بثلاثة مناصب في مجلس السيادة، و6 في مجلس الوزراء، و3 ولاة، على أن تحصل على 25 في المائة من المقاعد البرلمانية. لكن اثنتين من تلك الحركات، هما "تحرير السودان" بقيادة ميني أركو ميناوي، و"العدل والمساواة" بقيادة جبريل ابراهيم، لم تكن متشجعة على الدخول مع شراكة مع قوى الحرية والتغيير، وتقاربت مع المكون العسكري، وتشاركت معه الرغبة في إزاحة "الحرية والتغيير" من المشهد.

وفي صبيحة 21 سبتمبر الماضي، كشفت "الحرية والتغيير" عن محاولة انقلابية يجري تنفيذها، وطلبت من الشعب التصدي لها، ولاحقاً أكدها الجيش السوداني. وسرعان ما غيّر الجيش مجرى المحاولة نفسها لأزمة سياسية بينه وبين المدنيين، بالحديث عن فشل الحكومة، واتهام 4 أحزاب داخل تحالف الحرية والتغيير، هي الأمة القومي والتجمع الاتحادي والبعث والمؤتمر السوداني، باختطاف القرار السياسي والتنفيذي، وتمكين كوادرها في أجهزة الدولة.

ووقع بعد ذلك سلسلة من الملاسنات بين العسكر والمدنيين، تبنى فيها المدنيون خط اتهام المكون العسكري بالتخطيط للانقلاب على السلطة، فيما ساند الشارع، عبر مليونية في 21 أكتوبر، خط مواجهة أي انقلاب عسكري. وفي المقابل، اصطفت حركات متمردة وأحزاب سياسية أخرى في صف المكون العسكري، ونظمت اعتصاماً في محيط القصر الرئاسي لمطالبة الجيش بالتدخل لحل الحكومة.

وبعد 4 أيام من المليونية، استيقظ السودانيون على وقع الموسيقى العسكرية، والإعلان عن بيان لقائد الجيش رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، مع قطع شبكة الاتصالات وخدمات الإنترنت وانتشار عسكري غير مسبوق للجيش وقوات الدعم السريع في شوارع الخرطوم. كما تم تنفيذ اعتقالات طاولت حمدوك وعددا من وزراء حكومته، وأعضاء مجلس السيادة، وقيادات في لجنة تفكيك نظام الثلاثين من جوان وناشطين وقادة أحزاب.

وبعد ذلك جاء البيان الأول للبرهان الذي أعلن فيه حل مجلس السيادة ومجلس الوزراء، وإعفاء ولاة الولايات ووكلاء الوزارات. وأحال كل سلطات مجلس السيادة ومجلس الوزراء له. وأتبع ذلك قرار إقالة لمسؤولين في مؤسسات الدولة.

وعلى عكس ما تشتهي سفن الانقلاب العسكري، أتت رياح المقاومة له منذ لحظته الأولى. ففي ساعات الصباح الأولى من 25 أكتوبر، أغلق الآلاف من السودانيين الطرق والشوارع الرئيسية، وسيّروا مواكب وصلت إلى محيط القيادة العامة للجيش، تعاملت معها السلطات الانقلابية بعنف مفرط وسقط فيها ضحايا.

وتواصلت عمليات التصعيد من إضراب سياسي وعصيان مدني، ووقفات احتجاجية وتظاهرات ليلية، حتى بدأت مرحلة جديدة من المواكب المليونية في 30 أكتوبر، وصلت إلى 9 مواكب، بإصرار على إسقاط الانقلاب وهزيمته ومحاكمة قادته، وإقصاء العسكر كلياً عن المشهد وعودتهم لثكناتهم، طبقاً للبيانات والشعارات المرفوعة، والتي توجت بلاءات ثلاث: "لا تفاوض، لا مساومة، لا شرعية".

وفي خضم الحراك الثوري، فاجأ حمدوك، من مقر إقامته الجبرية الذي وضعه فيه الجيش، الجميع بموافقته على اتفاق سياسي مع البرهان، ينص على عودته لمنصبه والعودة للعمل بالوثيقة الدستورية، وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة. وتم الاتفاق على الإسراع في إكمال هياكل السلطة الانتقالية، والتوصل لإعلان سياسي جديد، يحكم الفترة الانتقالية، عدا العمل على تشكيل جيش وطني موحد، وإعادة هيكلة لجنة تفكيك نظام الثلاثين من جوان.

وأصاب الاتفاق، وطريقة إخراجه، الشارع الثوري بإحباط كبير، لكونه يشرعن الانقلاب العسكري، ويتجاوز مطالب الثوار. لكن حمدوك حاول تبرير الاتفاق كاجتهاد منه، لحقن دماء السودانيين، والمحافظة على إنجازات الثورة، وإعادة البلاد لمسار التحول الديمقراطي.

ولم يؤثر الاتفاق، أو يساهم في وقف المد الثوري اليومي، إذ استمرت المواكب والتظاهرات والوقفات الاحتجاجية في غالبية المدن السودانية، على الرغم من إحساس الكثيرين بتعرض الانقلاب إلى هزيمة نسبية، بدلالة تراجعه اليومي عن قراراته، وإصدار حمدوك قرارات أبطل فيها ما قام به البرهان في أسابيع الانقلاب الأولى من إقالات وتعيينات.

مظاهرات-ف-السودان-2.jpg

من الممكن أن يعجبك أيضاً