post

السيدة المنوبية .. قطب الصوفيّة في عهد الدولة الحفصيّة

ثقافة وفن الثلاثاء 07 سبتمبر 2021

مرآة تونس - هزار الفرشيشي 

تناقلت مناقبها الأجيال، وتغنّت بكراماتها المأثورات الشعبية، فهي "النّغّارة" التي تحمي أتباعها ومريديها من الشرور وتثأر لهم. ارتبط اسمها بالزّهد والورع والتّقوى ونصرة المظلومين ومؤازرة المحتاجين، تنقّلت بين مزارات الأقطاب الصوفية والأولياء الصالحين، وآمنت بوجود الله حول مساكن الفقراء والمساكين. 

هي عائشة المنوبية، ابنة الوليّ الصالح الشيخ عمران بن الحاج سليمان المنّوبي المعروف بسيدي عمر، وتلقّب بـ "السيدة المنوبية". وهي فريدة عصرها، وصاحبة البركات والكرامات التي حازت العلم والمعرفة والنبوغ والجمال الفائق. 

سابقة عصرها التي حرّكت الرّواكد 

نشأت عائشة المنوبية في العهد الحفصي، خلال القرن الثالث عشر الميلادي، في جهة منوبة بالعاصمة تونس. وفي زمن كان فيه التعليم والتعلم حكرا على الرجال أو على بعض النساء كالأجنبيات القادمات من المشرق أو من الأندلس أو من ينتمين إلى العائلة الحاكمة، إلا أن عائشة المنوبية لم تكن تنتمي إلى أيّ من هذه الفئات، شقّت الفتاة الحالمة المتمرّدة طريقها بثبات للتعلم، فأتقنت قواعد اللغة العربية وتمكنت من علوم القرآن. ولم تكن عائشة المنوبية تكلّم الرجال من وراء حجاب ولم تكن تغطي وجهها، وكانت تتجول في الشوارع دون رجل يرافقها، كما يذكر أنها لم تكن ترتدي حجاباً فوق رأسها، وكان قرارها هذا تأثّرا بأفكار ابن عربي الأندلسي الذي يشدّد على الفصل بين عمق الإنسان من جهة، وبين مظهره الخارجي والاجتماعي من جهة أخرى، حتى وصل الأمر بمطالبة أحد الفقهاء المتشددين برجمها، لكن علاقتها بالسلطان أبي زكريا حمتها.

وكانت المنوبية خطيبة تتحدث وتناقش الرجال بكل جرأة وحرية غير معهودة في ذلك العهد، ما أعلى مكانتها وجعلها من المقربين من الأمراء، فقد كانوا يتقرّبون منها لما لديها من قوّة تأثير في المجتمع وباعتبار أنها كانت من أبرز صنّاع الرأي العام في ذلك الوقت. 

وفي كتابه "مناقب السيدة عائشة المنوبية"، ذكر أبو العباس أحمد التادلي المغربي حادثة للسيدة عندما كانت طفلة لم تتجاوز الاثني عشر عاما، حيث رغب والدها في تزويجها من ابن عمّها خوفا عليها من "الزمان الفاسد" ومن "عوائق الزمان"، فالتفتت لابن عمّها ودعت عليه بالموت في اليوم الموالي عند الضحى إن كان يريد الزواج بها، فضحك الناس منها، فلما حلّ منتصف الليل "أعطاه الله وجعا على سرّته فبقي يطارده حتى الضحى ومات رحمه الله". 

وعندما ضاقت منّوبة بما رحبت به أحلام وطموحات الفتاة الثائرة، أصرّت على رفض الزواج وآثرت الرحيل عنها وشدّت الرّحال إلى مدينة تونس لطلب العلم، في زمن لم يكن فيه للنساء الخيار لتقرير مصائرهنّ، أين تعلّمت من أبي سعيد الباجي، والتقت بأبي الحسن الشاذلي وتتلمذت على يده، ليصبح معلمها وقدوتها، كما عملت في غزل وحياكة الصوف ليكون لها مورد رزق من كدّ يمينها. 

السيدة المنوبية .. قطب من أقطاب الصوفية 

يقول ابن عربي، الذي يؤمن بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في التكريم الخاص بالإنسان، وفي كل خطاب موجّه للجنس البشري يرتب له حقًّا أو يحمّله مسؤولية: "كل ما يصحُّ أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء"، وقد حازت عائشة المنوبية، لما تتصف به من علم وزهد وفعل للخير، على مرتبة "القطبيّة"، وهي أعلى منزلة روحية صوفيّة، حتى أنها لقّبت بـ "السيدة" على غرار الرجال الذين يُمنحون لقب "السيّد" في الصوفية. 

وقد منحت السيدة المنوبية "القطبيّة" من طرف معلمها أبي الحسن الشاذلي في مراسم رسمية، وأعطاها عباءته وخاتمه عندما غادر تونس باتجاه مصر. وعن ذلك تقول السيدة: "أنا رأيت أبا الحسن الشاذلي وأعطاني خاتمه من إصبعه وقال لي: أنا أوليتك طريقتي"، وتقول أيضا: "رأيت الشاذلي مرة أخرى وأعطاني علمه وصبره". 

رافقت السيدة المنوبية معلّمها الشاذلي إلى أماكن مختلفة للصلاة حتى تلك التي توجد على قمم الجبال وأعالي التلال، وتمكنت من الصلاة في أماكن يحتكر الرجال دون سواهم الصلاة فيها، على غرار جامع موسى العابدين الذي شيده السلطان أبو زكريا. وخطبت السيدة في الرجال، ففاجأتهم بفصاحتها وبلاغتها، ما كان مقتصرا على الفقهاء الرجال المتميّزين دون سواهم، وقيل حتى إنها أمّتهم في الصلاة. 

ولقّبت عائشة المنوبية بالعاشقة المتصوفة، حيث كانت عبارات العشق الإلهي والسّكر تطغى على كلامها، وتقصد هنا سكر القلوب بالخمر الصوفي لا سكر العقول بالخمر الدنيوي، حيث تقول: "أنا سكرانة طول حياتي". 
ولم يكن تصوف السيدة المنوبية زهدا وانقطاعا تامّا عن الحياة الدنيا، بل كانت تسير بين الناس لقضاء حوائج المحتاجين وجبر كسور المستضعفين، وكان تصوفها مناصرة للقضايا الإنسانية العادلة، فقد روي عنها أنها كانت تشتري الرّقيق المعدّين لإرسالهم إلى إيطاليا لتهبهم حرياتهم، كما كانت ملاذ النساء المكلومات والمضطهدات، حتى اعتبر المؤرخون أنها أول ناشطة نسوية عرفتها تونس. 

مقام السيدة .. شاهد على الكرامات ومنطلق "المدّاحات" 

أصبح البيت العائلي الذي نشأت فيه السيدة المنوبية، بولاية منّوبة، والذي عادت إليه في آخر حياتها لتلفظ فيه آخر أنفاسها، مزارا يتوافد عليه الناس من كل صوب وحدب لنيل كرامات "السيدة النّغّارة"، رغم أنها لم تدفن فيه، فتقصده من تأخّر إنجابها وتزوره من تعطّل زواجها ويأتيه من يرجو شفاءه.  

يتقدم المقام رواق مغطّى يحتوي أعمدة اسطوانية تعلوها تيجان، ينتصب تحتها باب خشبي ذو دفتين مزيّن بالمسامير السوداء، تعلوه نقوش وزخارف، يفضي إلى "دريبة" ثم إلى صحن الدار المكشوف الذي أنجز بلاطه من المرمر الإيطالي، وزيّنت جدرانه بالجليز الأخضر المزخرف. وتتوزع حول الصحن غرف مخصّصة لاستقبال الزوار، وقبالة المدخل توجد "القاعة الجنائزية" التي تحتوي ضريحا رمزيا للسيدة المنوبية، حيث أنها ترقد في إحدى مقابر العاصمة. وبالجهة الشرقية لصحن المقام تقع ملحقات الزاوية من مذبح ومطبخ وبئر وغيرها من مستلزمات القيام بالطقوس والشعائر الدينية والروحية. 

يذكر أنه عقب ثورة "17 ديسمبر 2010/ 14 جانفي 2011"، عمدت مجموعة من ستّة أنفار، سنة 2012، إلى إحراق مقام السيدة المنوبية في سلسلة اعتداءات لمجموعات متطرفة على مقامات وأضرحة الأولياء الصالحين.

وبصفة دورية، يجد زوّار زاوية السيدة المنوبية في استقبالهم "ميعادا" في المقام، تلتقي فيه "مدّاحات" السيدة ويجتمعن على الإنشاد الصوفي وذكر مناقب صاحبة الدّار وكراماتها فيما يعرف بـ "التّيجانيّة"، فتختلف طرق التفاعل مع الإنشاد ومنها ما يعرف بـ "التخميرة" وهي الرقص على الأناشيد إلى درجة الانصهار الذي ينتهي بالإغماء. 

وعلت أصوات مدّاحات السيدة المنوبية لتتجاوز حدود الزاوية وتصبح ركنا أساسيا في المناسبات الثقافية التي تعنى بالفولكلور التونسي وفي المناسبات العائلية للتونسيين كالأعراس التي لم تعد تخلو من إنشاد: 
"يا سيدة يا نغارة  ...  دبّر عليا الدبارة" 

galleries/test-01-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً