post

المالوف التونسي رحلة شيّقة في تاريخ الأندلس

ثقافة وفن الجمعة 21 جانفي 2022

مرآة تونس - خولة الفرشيشي 

تشتهر منطقة شمال إفريقيا بفنّ المالوف بتخفيف الهمزة وتتنوع تعريفاته، فهناك من يقول أنّه اشتق من الألفة وهناك من يقول أنّ كلمة المالوف هي المألوف وتعني "وفيّ للتقاليد". تعود جذور المالوف إلى الأندلس وذلك بعد تهجير الأندلسيين من طرف الاسبان وهربا من حملات التنصير التعسفية والتي عرفت بمحاكم التفتيش الإسبانية إثر سقوط غرناطة سنة 1492 ميلادي. 
استوطن الأندلسيين بعد هجرتهم إلى المغرب العربي عدّة مدن  واشتهروا ببراعتهم في فنون الموسيقى ومع استقرارهم بشمال إفريقيا نقلوا فنّ المالوف وذلك في إطار التعويض عن غربتهم في موطنهم الجديد، غنى المورسكيون حنينهم وحزنهم عن فقد الديار في منفاهم الجديد أثناء نشاطاتهم اليومية في قصائد وأزجال فتداول فنّهم وأصبح محببا وحاضرا بقوّة في المغرب العربي.


 أصبح فنّ المالوف شهيرا في عدّة دول كتونس والجزائر والمغرب الأقصى وليبيا بل وجزء مهمّا من تراث هذه الدول، في هذا الصدد يقول المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب "تاريخ المالوف هو تاريخ الهجرة الأندلسية إلى شمال إفريقيا "، ففي حضرة وجلسات المالوف يمكن للمستمع أن يستذكر التاريخ الغابر للأندلس. 
شهدت تونس في القرن 14 و15 ميلادي أكبر هجرة للأندلسيين وذلك بعد طردهم من طرف ملك إسبانيا وقد وجد الأندلسيون ترحابا كبيرا من طرف أمير تونس "عثمان باي" الذي سهل لهم تمليك الأراضي الزراعية وقد شهدت البلاد آنذاك نهضة عمرانية وفلاحية كبيرة ساهم فيها الأندلسيون بطريقة كبيرة، في هذا السياق يقول حسن حسني عبد الوهاب المؤرخ التونسي في كتابه الشهير "ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية"، " استحوذت "الفنون الأندلسية" على الأهواء والأذواق ومن ذلك الحين تغيّر مجرى التأثير وأصبحت موجاته تأتي من المغرب بعد ما كانت تأتي من المشرق" فكان وجود الجالية الأندلسية بالمغرب العربي مؤثرا في الفنون والمعمار.
يعدّ الفنان التونسي الشيخ خميس الترنان رائد المالوف بتونس الذي اشتهر في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي  وهو سليل عائلة مورسكية امتهنت الخياطة وانتمى أغلب أفراد إلى الطريقة العيساوية المعروفة بحفظ تراث المالوف.


 كان وجود خميّس الترنان مع رفاقه في جمعية الرشيدية بمثابة المقاومة الثقافية ضدّ المستعمر الفرنسي الذي سعى إلى طمس الهوية العربية والإسلامية طيلة تواجده فلعبت قصائد وتواشيح المالوف دورا كبيرا في حفظ التراث العربي التونسي من محاولات الطمس الممنهجة من الاستعمار الفرنسي .
أسس الشيخ خميّس الترنان مع عدّة مثقفين آخرين أشهرهم الشيخ أحمد الوافي والأستاذ مصطفى صفر الجمعية الرشيدية سنة 1934  وتعتبر أقدم مدرسة موسيقية في شمال إفريقيا في هذا السياق يقول الباحث فتحي العابد : "يعدّ المعهد الرشيدي، المنبثق عن الجمعية الرشيدية، أول معهد موسيقي عربي في تونس والمغرب العربي يرسي دعائم التكوين الموسيقي الأكاديمي للمالوف، وقبلها كان التلقين الشفاهي أبرز طرق التعليم المعتمدة لحفظ التراث الموسيقى التونسي والعربي، من مالوف وموشحات وأدوار بإيقاعاتها المختلفة"..
استطاعت جمعية الرشيدية في حفظ تراث المالوف خاصة وأنّه نمط موسيقي ذو تقاليد شفوية في الحفظ والتداول وهو عبارة عن قصائد وتواشيح أندلسية وأخرى تونسية، وتتنوع بين الأذكار الدينية ومدح الرسول الكريم وال البيت وهو ما يعكس تعلق الأندلسيين بدين الإسلام وتعاليمه وبين قصائد الغزل والعشق وفي هذا الصدد يقول المختصون أنّ المالوف منقسم إلى قسم ديني وقسم دنيوي.
وقبل أن يحطّ المالوف الرحال بالرشيدية بشكل رسمي ويصبح أحد سماتها الأساسية كان يغنّى في الطرق الصوفية وفي زوايا الأولياء الصالحين وأبرزها زاوية سيدي علي عزوز  بشمال تونس وأيضا في الفرق العيساوية، وتستخدم في عزف المالوف آلات العود والكمنجة والطار والناي وأيضا الصنوج النحاسية.
ويسمّى المقام الموسيقي في المالوف ب"النوبة " وهي مفرد كلمة نوبات وتعني القصائد المغناة في الموسيقى العربية الأندلسية ولم يتبق منها سوى 12 نوبة حاليا وذلك بعد اندثار 12 نوبة، فقد تأسست الموسيقى العربية الأندلسية على 24 نوبة بعدد ساعات النهار وتنقسم كلّ نوبة إلى خمسة إيقاعات وأشهر نوبات المالوف، نوبة الحسين ونوبة العراق العجم، نوبة الحجاز المشرقي وغيرها.


__ مقطع من مدحية في حبّ النبيّ الكريم ___
أبشر لقد نلت ما تريد
والفرح مستقبل يزيد
الحبّ داء له دواءه
دواءه وصلك
فواصلوا وزيدوا
ويفعل الله ما يريد 


تعرف مدينة تستور بالشمال الغربي بتونس بفنّ المالوف الذي يعتبر جزء مهما من تراثها وثقافتها وتعرف بكثرة رواته وحفظته إلى اليوم وقد تتلمذ أغلب شيوخ المالوف في مدينة تستور فقد سبق وأنّ استقرّ الأندلسيين بهذه المدينة سنة 1609 وأقاموا فيها موطنهم الجديد كما أضافوا على المدينة لمساتهم إذ بنيت البيوت بالقرميد ومن أهمّ معالم المدينة إلى اليوم المسجد الكبير ذي الساعة التي تدور عقاربه إلى الوراء الذي بني سنة 1630 .
تشتهر أعراس المدينة بسهرة المالوف إذ لا يكتمل عرس في مدينة تستور دون إقامتها ليلة الخميس أو الجمعة تبركا بهذه الليالي وذلك لما تحمله من قدسية بالغة لدى المسلمين وتتنوع الوصلات الموسيقية بين نوبة العراق ونوبة الحسين إلى جانب وصلات في طبوع المزموم السيكاه وتضفي سهرات المالوف بهجة وفرحا في صفوف أبناء تستور الذين كبروا مع ثقافة المالوف الأندلسي. 
يفتخر المغرب العربي بفنّ المالوف بكونه جزء من ثقافته المتنوعة فأقيمت مهرجانات خاصة به عرفت به مدينة تستور بتونس ومدينة قسنطينة بالجزائر بل وأصبح الممثل الرسمي لهذه الدول في بعض المناسبات الدولية ويتباهى أبناء المغرب العربي بحفظ بعضا من تراث الأندلس الغابر الذي وجد مكانا هناك ورواجا بينهم.
 

 

galleries/المالوف-التونس-رحل-شق-ف-تارخ-الندلس-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً