post

رغم أنها تقهقرت لمصلحة شكسبير إلا أن تونس لازالت تراهن على لغة موليير

تونس الجمعة 15 أكتوبر 2021

جليلة فرج – مرآة تونس

"ليست اللغة سوى عُملة نقدية تُتداول في أسواق الألسن لتحقيق الفائدة"، هذه هي الاستعارة الحيّة التي شيّد على ضوئها عالم اللغة الفرنسي لوي-جون كالفيه نظريته حول وضعيّة اللغات في عصرنا هذا، بعد أن بات العالم قرية يهيمن عليها اللسان الإنجليزي، وتعيش على وقع عولمة لغوية ضارية، أو هكذا علّق كالفيه على تراجع اللغة الفرنسية في وقت تحوّل فيه العالم إلى قرية ينتشر فيها اللسان الإنجليزي، وتعيش على وقع عولمة لغوية ضارية.

ففي الوقت الذي لازالت تتفاخر فيه لغة موليير بأنها لغة العطور والموضة والنبيذ، احتلت لغة شكسبير الجامعات والمؤسسات التعليمية في العالم وحتى في الدول الفرنكوفونية وأصبحت لغة شبكة المعلومات الدولية، وبالتالي فهي لغة العلم والأعمال. وإذا كنّا نريد القيام بقفزة نوعية، علينا الابتعاد عن المزايدات السياسية واتباع اللغة الناجحة عالميا.

ولكن في الوقت الذي تسعى فيه عدد من الدول الإفريقية الفرنكوفونية إلى تقليص أو إلغاء تدريس الفرنسية مثل دولة رواندا، تصرّ تونس على أن تكون اللغة الثانية بعد اللغة الأم العربية هي اللغة الفرنسية التي أصبحت تدرّس منذ السنة الثانية ابتدائي.

فشل تونسي

كانت تونس بلدا مؤسسا للفرنكوفونية وعضوا ناشطا في المنظمة الدولية للفرنكوفونية، وأولت على الدوام بناء المشروع الفرنكوفوني اهتماما موصولا. وحظيت تونس بتشريف نظيراتها من البلدان الفرنكوفونية، إبّان القمة الفرنكوفونية السادسة عشرة التي عُقدت بأنتاناناريفو في شهر نوفمبر 2016، بشرف احتضان القمةَ الفرنكوفونية الثامنة عشرة، يومي 20 و21 نوفمبر 2021 بجزيرة جربة، والاحتفال بالمناسبة ذاتها بالذكرى الخمسين لإنشاء الفرنكوفونية المؤسسية.

ولكن لأنها لم تحرص على توفير كافة أسباب النجاح لها، فشلت تونس في أن تنعقد هذه القمة لأوّل مرّة تاريخ الفرنكوفونية خارج عاصمتها. وصدر في بلاغ وزارة الخارجية أن "تونس شاركت في اجتماع المنظمة الفرنكوفونية ودافعت عن عقد القمة في موعدها لكن الرأي الأغلبي رأى أنه من الأصلح اقتراح التأجيل بسنة". كما أن صفحة وزارة الخارجية نشرت نشاطا لوزير الخارجية على أساس الاستعداد للقمة ثم حذفته لأن منظمة الفرنكوفونية أعلنت عن التأجيل.

ويعود هذا التأجيل إلى رفض عدد من الدول المشاركة في القمة انعقادها في تونس باعتبار الظروف التي تمر بها البلاد منذ 25 جويلية، وأنها أي هذه الدول، لا ترضى التعامل مع دولة سياستها مهتزة وغير ديمقراطية، ورفضت أن تبارك انقلابا على الدستور وعلى إرادة الشعب. وبالتالي لم تخاطر المنظمة الدولية للفرنكوفونية بسمعتها من أجل بلد ذبحت فيه الديمقراطية ذبحا أمام كاميرات العالم كلّه.

تبعيّة مقيتة

وأنت تزور العاصمة تونس، يجلب انتباهك أسماء الأنهج والشوارع، وعند قيامك بجولة وسط البلاد، تمرّ بنهج شارديغول عبر شارع فرنسا ثم تدخل نهج مرسيليا لتجد نفسك في شارع باريس أين يوجد المركز الفرنسي التونسي ثم تجد نهج بيار كوري، ونهج مونداس فرانس... وترى أغلب اللافتات باللغة الفرنسية، ما يجعلك تشعر بالاستعمار الفرنسي في هويتنا، في لغتنا، في أماكننا، في لافتاتنا...

ورغم أننا نحيي اليوم 15 أكتوبر 2021، الذكرى 58 لعيد الجلاء، وهو تاريخ جلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي التونسية تحديدا من بنزرت في 15 أكتوبر 1963، لا زالت تونس في تبعية مقيتة لفرنسا، ولازالت تراهن على لغة التخلف، ولازالت الفرنسية مترسخة في الثقافة التونسية، وهو معطى تاريخي نابع من الاستعمار الفرنسي لتونس، وتغيير هذا الواقع يتطلب زعيما وطنيا لا يأتمر بفرنسا ولا "يبوس الأكتاف".

ونلاحظ أن التمسّك بالفرنسية أصبح يعوق النمو والتقدّم، بل ويسهم في ارتفاع نسبة البطالة، إذ أن هناك أكثر من 500 ألف تونسي جلهم من أصحاب الشهادات، كان يمكن أن يحصلوا على فرصة عمل لو أتقنوا اللغة الإنجليزية.

ولأن غالبية الطلبة يعون أهمية الإنجليزية، وأن ما يتلقونه في البرامج التعليمية الرسمية غير كاف، بدأوا بتطوير اللغة الانجليزية بالممارسة اليومية والمطالعة، وبمواصلة الدراسة بصفة فردية، ما جعل مراكز تعليم الانجليزية تنتشر خلال السنوات الأخيرة، وأصبح الشاب التونسي يختار الإنجليزية التي فرضها الواقع. ولكن رغم ذلك، نجحت فرنسا في زرع أسس ثقافتها في الطبقة البورجوازية للمجتمع التونسي طيلة سنوات الاستعمار، واستغلت فترة البناء الوطني إبان الاستقلال لخلق نمط عيش موازي للهوية التونسية يتماشى مع أفكار العلمانية الفرنسية، وطبعا لم يكن هذا الهدف بالأمر الصعب في ظل تفشي الأمية وفراغ فكري وثقافي حرص عليه المستعمر طيلة أكثر من سبعين سنة، والنتيجة كانت مجموعة من الجامعيين والأكاديميين بهويات تونسية وعقول فرنسية.

صحوة

البلدان التي شهدت قفزة نوعية اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا مثل أثيوبيا وخاصة رواندا هي مستعمرات فرنسية كانت تعيش تبعية أكاديمية وثقافية مقيتة، ولكنها تخلصت من عقدة الفرنسية وجعلتها لغة اختيارية وأصبحت الانجليزية هي اللغة الرسمية باعتبار أن الانجليزية هي مصعد لعلماء العصر ولذلك لا يمكننا المراهنة أكثر على الجواد الخاسر. وحتى الفرنسيين ذاتهم أصبحوا يتكلمون الانجليزية لأنهم تأكدوا أن الفرنسية هي لغة الفقراء ولغة العامة بينما الانجليزية هي لغة النخبة ولغة البحوث ولغة العلم.

فعندما نقول لغة انجليزية فيعني أننا نتحدّث عن لغة الذكاء ولغة الشباب الذي بدأ يتخلص من لغة التخلف وتجاوزها وأصبح تفاعله خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي باللغة الانجليزية. وفي الأعوام الأخيرة، وجدت اللغة الفرنسية في تونس منافسة حادة من طرف نظيرتها الإنجليزية، التي تحظى بدعم الجيل الجديد من الشباب الذي يرى فيها لغة التطوّر والعصر، ولا يعارض فكرة ترقيتها إلى اللغة الأجنبية رقم واحد بعد العربية. ويبدو أن شكسبير تسلّل إلى المواقع المتقدمة لموليير في بلادنا، وعدّل الشباب الكفّة لمصلحة لغة شكسبير، في مقابل تراجع للغة موليير، وكدليل على ذلك ما حدث في نتيجة امتحان البكالوريا سنة 2017، إذ حصل 7 آلاف تلميذ على درجة صفر في امتحان مادة اللغة الفرنسية.

واحتلت تونس المركز الأول مغاربيا في نسخة 2020 لمؤشر إتقان الإنجليزية الصادر عن مؤسسة "Education First" التعليمية الدولية، والذي شمل 100 دولة غير ناطقة بالإنجليزية.

وعلى المستوى الرسمي، باشرت وزارة التربية تدريس الإنجليزية بدءا من الصفّ الرابع الابتدائي، انطلاقا من العام الدراسي 2019، بعد أن كانت تدرّس في سنوات التعليم المتقدمة. لكن لا يقع اعتمادها كلغة ذات أهمية على غرار الفرنسية في التعليم العالي، إلا في بعض الاختصاصات مثل الأدب الإنجليزي أو اختصاص الأعمال، فكل المواد العلمية تُدرس باللغة الفرنسية.

ولأن المستقبل المهني والتعليمي أصبح مرهونا بمدى إجادة الشخص للغة الإنجليزية، طالب وزراء التربية سابقا ناجي جلول وسالم الأبيض وعبد اللطيف عبيد باستعمال اللغة الانجليزية بدل الفرنسية في المناهج التعليمية لأنهم تفطنوا لأهميتها، ولكن تمّ عزلهم بعمليات كيدية مثلما حصل مع محمد المزالي في 1986 بعد أن كان وزير داخلية ووزيرا أولا ولكن تمّ عزله لأنه راهن على اللغة العربية وابتعد عن اللغة الفرنسية وكانت الضريبة إبعاده عن الحكم لأن الحركة الصهيونية في العالم والتي تمثلها فرنسا في تونس هي على درجة من الوعي بأننا يجب أن نبقى في تبعية لها مدى الحياة.

ولأن اللغة الفرنسية تتميّز بالهشاشة في عالم البحث والتعليم، لوحظ على مدى عقود في نظام البحث العلمي الكندي، استمرار تراجع اللغة الفرنسية لصالح اللغة الإنكليزية التي تزداد نموا، ففي عام 2019، تم نشر ما يقارب نسبة 100% من المقالات الكندية في العلوم الطبية والطبيعية باللغة الإنكليزية، وكذلك 97% من المقالات في العلوم الاجتماعية، و90% من البحوث في الفنون والآداب.. كما أن 98% من المنشورات المرموقة في العالم تصدر باللغة الإنجليزية. وأكّدت الجامعات وباحثوها الذين يريدون بناء رأسمالهم العلمي من خلال عمل معترف به من قبل الأسرة الأكاديمية أن اللغة الإنجليزية هي الآن أقصرُ طريق للوصول إلى تلك الغاية.

 

galleries/website-size-01-4.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً