post

عملية الطائرات الشراعية .. حين أوجعت المحتل يد تونسية

ملفات الخميس 25 نوفمبر 2021

مرآة تونس - هزار الفرشيشي

يقول المثل الشعبي "إيش لمّ الشّامي عالمغربي!"، وفي تاريخ المقاومة الفلسطينية محطات تاريخية عظيمة اجتمع فيها شمل "الشامي" و"المغربي"، جمعهما فيها حبّهما للقضية الأم ورفعهما لواء الكرامة العربية في وجه الاحتلال. 
مجموعة فدائية نفذت عملية بطولية خالدة كسرت بها شوكة المحتلّ الصهيوني، التقت فيها الهمّة المشرقية بالحزم المغاربي. "عملية شهداء قبية" أو "ليلة الطائرات الشراعية"، التي تغنى بها الفنانون وقيل فيها: 
"طار اليعسوب يا يمّة بجناحو طار 
وتعالى على جراحو بعزم وإصرار 
طار اليعسوب يا يمّة ورجع عالدار 
نزل على ترشيحا بالمعسكر 
طائرة شراعية بالعالي طار 
وعلى دروبك يا بلادي نزرع نوّار" 

 

ليلة الطائرات الشراعية

ليلة الخامس والعشرين من نوفمبر 1987، قالت القيادة العامة للجبهة الشعبية كلمتها على الحدود اللبنانية مع الأراضي الفلسطينية المحتلة، ووجّهت ضربة موجعة إلى صفوف العدوّ. أربعة فدائيين من تونس وسوريا وفلسطين، ابن ولاية مدنين بالجنوب التونسي، الفدائي ميلود ناجح بن لومة، وابن حلب الشهباء، السوري خالد أكر زوربا، إضافة إلى فدائيين فلسطينيين لم تكشف المقاومة اسميهما، أعدّوا عدّتهم، أدّوا التحية العسكرية لقادتهم وحملوا أكفانهم على راحاتهم من داخل لبنان باتجاه الأراضي المحتلة، في رحلة لا عودة منها. 
تمّ التجهيز للعملية في كنف السرية وفي دائرة مضيقة للغاية، إذ لم يعلم بها سوى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، أحمد جبريل، وأربعة أفراد آخرين. حتى إنّ أبطال الملحمة لم يكونوا على علم بخط السير العام للعملية إلّا في اللحظات الأخيرة، حسب ما رواه القيادي الراحل وأمين سر المكتب السياسي للجبهة، فضل شرورو. 
بسبب خلل تقني، اضطر المقاتلان الفلسطينيان إلى الهبوط الاضطراري داخل الأراضي اللبنانية، لتواصل طائرة ميلود ناجح طريقها وتتحطم على الحدود الفلسطينية اللبنانية داخل الحزام الأمني الذي كان خاضعا لسيطرة قوات "جيش لحد" العميلة للكيان الصهيوني، المعروف أيضا بـ "جيش لبنان الجنوبي. أصيب ابن تونس جراء سقوط طائرته وتحطمها، لكن إصابته لم تثنه عن الاشتباك مع دورية مشتركة تتألف من جيش الاحتلال وجيش لحد ليوقع بينهم 5 قتلى ثم ينال الشهادة. 
فيما واصلت طائرة خالد أكر التحليق، حيث نجح أكر ببراعة في تفادي رادارات الاحتلال ونقاط المراقبة، إلى أن حطّت الطائرة رحالها بنجاح على تخوم معسكر " غيبور" التابع لقوات جيش العدوّ الصهيوني، قرب بلدة ترشيحا شمال الأراضي المحتلة. قام الفدائي السوري باقتحام المعسكر والاشتباك مع عناصر من جيش الاحتلال موقعا 6 قتلى وأكثر من 30 جريحا في صفوفهم قبل أن يرتقي شهيدا.  

مناحيم بيغن وأكذوبة أمن سكان مستعمرات الشمال 

عقب اجتياح جيش الكيان الصهيوني لبنان سنة 1982، فيما يعرف بعملية "سلامة الجليل"، توجه رئيس وزراء الاحتلال آنذاك، مناحيم بيغن، إلى سكان المستعمرات شمال الأراضي الفلسطينية المحتلة قائلا: "الآن آن الأوان كي تنعموا بالهدوء والأمن والاستقرار إلى الأبد .. وإن أي أذى لن يلحق بكم بعد الآن". 
خمس سنوات لاحقا، وجّهت المقاومة ضربة موجعة خلف خطوط العدوّ بـ "عملية شهداء قبية" الخالدة، لتبرهن كذب مزاعم بيغن وغيره من قادة الاحتلال، حيث أدخل شهيدا العملية الرعب داخل المؤسسة العسكرية وداخل المستوطنات. 

سرّ تسمية "عملية شهداء قبية" 

لأنّ شهداءنا أقدس ما لدينا وأنبل ما فينا، ولأنّ المقاومة الفلسطينية دأبت على ردّ الصّاع صاعين بعد كل انتهاك يقوم به الاحتلال في حقّ الأبرياء، ولأنّ ذاكرة أصحاب الحقّ لا تنسى، أطلق على "ليلة الطائرات الشراعية" تسمية "عملية شهداء قبية" نسبة إلى قرية قبية الواقعة برام الله. 
ففي مساء الرابع عشر من أكتوبر سنة 1953، شنّ العدو الصهيوني عدوانا إجراميا بقيادة آرييل شارون على قرية قبية، مخلّفا 51 شهيدا من أبنائها و15 جريحا، كلهم من المدنيين العزّل من السلاح، ثم قامت العصابات بنسف جميع منازل القرية وتدميرها تدميرا شاملا، فكان العدوان على الأبرياء بقبية جرحا نازفا في تاريخ القضية الفلسطينية، لم ينسه الفدائيون بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود ليطلقوا اسم شهدائها، تكريما لأرواحهم، على ليلة الطائرات الشراعية. 

شهيد تونس وفلسطين .. الفدائي ميلود بن لومة 

في إحدى المقابلات التلفزية، ذكر القيادي الراحل بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فضل شرورو، تفاصيل عاينها عن عملية شهداء قبية، وعن بطلي العملية. وعن التونسي ميلود بن لومة، قال شرورو: "ميلود بن ناجح شاب عربي حتى الصميم ... كان دائما يطالب بأن يكون ضمن عملية نوعية! ميلود بن ناجح عندما قبل طلبه أن يكون ضمن عملية نوعية، كان كمن يهيّئ نفسه لحضور عرس". ويضيف فضل شرورو عن ميلود بن لومة بقوله: "لديه ثقافة عروبية وقومية، أنت تفاجأ أنه على هذا القدر من المستوى والفهم!". 
ولد ميلود سنة 1955 بسيدي مخلوف من ولاية مدنين، وارتقى شهيدا في الـ 32 من عمره، بعد أن سجّل وصيّته قائلا فيها: "أنا ميلود نومة من الجنوب التونسي، وإثر الاجتماع الطارئ وتناسي الزعماء العرب للقضية الفلسطينية، قررت ورفاقا لي القيام بهذه العملية لأعيد الاعتبار إلى القضية الفلسطينية التي هي القضية الأم". 
ويروى عن عائلة الشهيد بن لومة عند وصول خبر استشهاد ابنهم أن والدته قد زغردت فور تلقّيها النّبأ، بينما كان والده يردّد: "الحمد لله أنني دفنت لحما في فلسطين"، فيما أقبلت نسوة المنطقة على بيت الشهيد يزرن أمّه ويقبّلن يديها، وأصبح الشهيد يعرف في بلدته بـ "أبي الانتفاضة". 
ظلّ جثمان الشهيد ميلود لدى الكيان المحتل طيلة 21 سنة قبل الإفراج عنه سنة 2008 في إطار صفقة تبادل للأسرى بين حزب الله والكيان الصهيوني، ليقع نقله لاحقا إلى وطنه الأم، تونس، ويُدفن في بلدته بمنطقة سيدي مخلوف في مدنين. وكتب على شاهد قبر الشهيد، الذي يحمل رايتي تونس وفلسطين، "الشهيد ميلود بن ناجح نومة من مواليد 1955 في معتمدية سيدي مخلوف بمدنين، استشهد في عملية الطائرات الشراعية ضد العدو الصهيوني شمال فلسطين في 25/11/1987". 

لم تكن ليلة الطائرات الشراعية هدفا في حدّ ذاتها، بل كانت الشمعة التي خلقت نورا اخترق العتمة وأنار الطريق أمام الانتفاضة الأولى التي تفجّرت بعد أقل من أسبوعين، وبدا أثر عملية شهداء قبية واضحا في هتافات أطفال الحجارة الذين كانوا يهتفون باسم الشهيد خالد أكر ويردّدون: "ستّة لواحد!"، في إشارة إلى نجاح الشهيد أكر في القضاء على ستّة عناصر من جيش العدوّ الصهيوني. خالد أكر الذي نظم في مدح بطولته الشاعر العراقي، مظفّر النواب، قصيدة يقول فيها: 
"جئت إلى فلسطين 
لست إلا فلسطين 
مهما انتماؤك 
دم الشهادة ليس يجيّر 
نحن نجيّر للدّم 
كل البلاد تجيّر للدّم 
وهذا قليل قليل".  
 

galleries/website-size-01-6.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً