post

فلسطين نبض الشعب التونسي .. حين اختلط دم الشّعبين

تونس الجمعة 01 أكتوبر 2021

مرآة تونس - هزار الفرشيشي 

"حافظي على نفسك يا تونس...
سنلتقي غدًا على أرض أختك: فلسطين 
هل نسينا شيئا وراءنا؟
نعم، نسينا القلب وتركنا فيك خير ما فينا  
تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرا" 
ألقى محمود درويش قصيدته "كيف نشفى من حبّ تونس" وهو يودّع الخضراء، وعندما وصل إلى عبارة "نوصيك بهم خيرا"، خنقته العبرات وغالبه الدّمع، فأحنى رأسه كي يخفي دموعه عن الجمهور. فعلى أرض تونس، تحقق إعجاز تاريخي تلاشت أمامه كلّ قواعد الجغرافيا، وذلك حين اختلطت الدّماء التونسية بالدّماء الفلسطينية فيما يعرف بـ "مجزرة حمّام الشط"، التي أطلق عليها سلاح الجوّ لجيش الاحتلال الصهيوني "عملية السّاق الخشبيّة" كاسم حركي. 

 

منظّمة التّحرير الفلسطينية تحطّ الرّحال في تونس

كان صيفا ساخنا شهدته لبنان سنة 1982، معارك دامية وحصار خانق ضرب على العاصمة اللبنانية ليتجاوز الثمانين يوما إثر اجتياح جيش العدوّ الصهيوني لبيروت. انطلقت المشاورات حثيثة حول مغادرة منظّمة التحرير الفلسطينية الأراضي اللبنانية، وأمام الضغوط الدولية والإقليمية، استقرّت القيادة على وجوب الخروج من لبنان، لكنّ "أبو عمّار" – ياسر عرفات – تمسّك بأن يغادر الفدائيون حاملين أسلحتهم، دلالة على أن المقاومة الفلسطينية لم تهزم وأن الكفاح لايزال مستمرا. 
كان إيجاد محطّة تحط بها المنظمة رحالها وتكون نقطة مواصلة للكفاح ضد الاحتلال مهمة صعبة، لكنّ الدبلوماسي الأمريكي من أصول لبنانية، فيليب حبيب، الذي كان له دور محوري في التوصل إلى إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار بين كل من منظّمة التحرير وجيش الاحتلال، اقترح على قيادة المنظمة التّوجّه إلى تونس، مع أنّها لا تمثّل إحدى دول الجوار للأراضي الفلسطينية، ما يستحيل معه انطلاق الكفاح المسلّح من تونس، لكنها كانت تمثّل الخيار الأنسب في ظلّ التوازنات السياسية والإقليمية التي كان يشهدها الشرق الأوسط آنذاك. 

 

أما على صعيد الدولة التونسية، فقد تمّ قبول السلطات بتواجد القيادات الفلسطينية على أرضها بعد حصول تونس على تطمينات دولية بعدم حصول أيّ تجاوز على أراضيها من طرف الكيان الصهيوني. علاوة على ذلك، فقد كانت للقضية الفلسطينية – ولازالت - حاضنة شعبية قوية لدى التونسيين لشدّة إيمانهم بعدالة القضية ومساندتهم لها. 
في المقابل كان الشّرط الأبرز للجانب التونسي هو عدم تدخل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الشأن الدّاخلي لتونس، كما اتّفق الطّرفان على مراقبة دخول الأسلحة الفلسطينية إلى الأراضي التونسية وتسجيلها. 
واستقبلت تونس ثمانية آلاف فلسطيني، بينهم قيادات الصف الأول على غرار ياسر عرفات وخليل الوزير ـ أبو جهاد – الذي اغتيل على الأراضي التونسية في بيته في ضاحية سيدي بوسعيد سنة 1988. واتخذت منظمة التحرير الفلسطينية مقرا لها بمدينة "حمّام الشط" بالضاحية الجنوبية للعاصمة تونس، وكانت حراسة المقرّ مشتركة بين الجانبين التونسي والفلسطيني، وتمركز الجيش الفلسطيني في معسكر وادي الزرقاء التابع لولاية باجة من الشمال الغربي التونسي. 

العدوان الصهيوني .. ونجاة "أبو عمار" 

صباح الفاتح من أكتوبر سنة 1985، في سابقة تاريخية، اخترقت مجموعة مكونة من 8 طائرات تابعة لسلاح الجوّ بجيش الاحتلال الصهيوني الأجواء التونسية، بعد اتّخاذ القرار بتصفية القيادات الفلسطينية، لتقصف مقر منظمة التحرير بوابل من القنابل وتهدمه بالكامل. حيث تمكن جهاز المخابرات الصهيوني، الموساد، من تعقّب أحد الاجتماعات المهمّة في مقر المنظمة بإشراف ياسر عرفات. 
علمت المخابرات في وقت متأخر أنّ "أبو عمار" قد أجّل الاجتماع، وذلك بسبب أنّ عدداً من كبار الضبّاط لم يتمكنوا من الوصول إلى تونس بسبب حجوزات الرحلات الجوية، ممّا حتّم تأجيل الاجتماع للمساء، فاتجه عرفات رفقة كبار قادة المنظمة إلى مدينة رادس لتقديم واجب العزاء إلى عائلة وزير الدفاع التونسي الأسبق، عبد الله فرحات، الذي توفي قبل أيام. وبقي بعض أعضاء المنظمة في مقرّ القيادة للإعداد لاجتماع المساء، لكن الطائرات الصهيونية كانت قد شارفت على الاقتراب من السواحل التونسية بما يستحيل معه التراجع عن العملية، فأطلقت الصّواريخ على مقر منظمة التحرير. 

نتج عن الغارة التي أطلق عليها العدوّ اسم "السّاق الخشبية" تدمير مقر منظمة التحرير الفلسطينية تدميرا كليا، إضافة إلى مكتب الرئيس الراحل ياسر عرفات والمقر الخاص بحراسه وبعض منازل المدنيين المحيطة بهذه المقرات، كما استشهد على إثرها 50 فلسطينيا و18 تونسيا، وجرح حوالي 100 شخص حسب التقرير الرسمي للدولة التونسية الذي قدمته للأمين العام للأمم المتحدة، كما قدّرت الخسائر المادية الناتجة عن العملية بحوالي 8.5 ملايين دولار. 
مباشرة أعلن الاحتلال عبر وسائله الإعلامية رسميا مسؤوليته عن تلك الغارة، مشيرا إلى أنه قام بها "في إطار حق الدفاع عن النفس"، وأعلن القضاء على جميع القادة الفلسطينيين وعلى رأسهم ياسر عرفات، ليظهر عرفات أمام الكاميرات مساء ذلك اليوم فوق الحطام متوعدا الكيان بالرد على هذه العملية. 


أما في تونس، فلم يعلم الشعب بالغارة إلّا من خلال القناة الإيطالية الأولى التي كانت تبث في تونس. وبعد ساعة من المجزرة، أعلنت إذاعة تونس الخبر كما يلي: "طائرات مجهولة الهوية قامت بقصف منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط ". 
وتباينت المواقف الدولية حول عملية الساق الخشبية، حيث باركت الولايات المتحدة الأمريكيّة العملية بعد ربع ساعة فقط من الغارة على لسان الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، فيما أدان رئيس الوزراء الإيطالي، كراكسى، الكيان الصهيوني بلهجة قاسية، قائلا إن بلاده مصمّمة على حقها في معرفة ما إذا كانت الطائرات الأمريكية قد استخدمت الأراضي الإيطالية لتزويد الطائرات المعتدية بالوقود. 

 

وعن موقف تونس، فقد علق الوزير الأوّل الأسبق، محمّد مزالي، على الغارة في تصريح إعلامي بثه التلفزيون التونسي، وبرّر عدم تصدّي الجيش الوطني للعدوان الصهيونيّ بقوله: "لو خرجت الطائرات التونسية لاصطادتها الطائرات الإسرائيلية مثل العصافير". أمّا الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، فقد استدعى السفير الأمريكي في تونس آنذاك، بيتر سيبستيان، وأبلغه غضبه الشديد. 
ولم تتمكن تونس من انتزاع موقف يدين الكيان الصهيوني من طرف مجلس الأمن بعد فيتو أمريكي منع صدور قرار يلزم الكيان بالاعتذار والتعويض لتونس، فهدّد الرئيس بورقيبة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تراجعت لاحقا عن الفيتو وامتنعت عن التصويت لأول مرة في التاريخ ضد الاحتلال، ليصدر مجلس الأمن القرار رقم 573 الذي حمل أول إدانة للاحتلال وأقرّ حق تونس في التعويضات. 
كما كان للشعب التونسي ردّه القوي والحازم، فعمّت المظاهرات أرجاء العاصمة تونس وتوجهت الجموع الغفيرة إلى السفارة الأمريكية للمطالبة بقطع العلاقات التونسية الأمريكية، كما شهد مستشفى "شارل نيكول" أكبر عملية تبرع بالدم لفائدة جرحى الغارة، وقام أصحاب الجرّافات من المواطنين بالتبرع بالعمل لإزالة الأنقاض. 

 

وبعد مرور 36 سنة على اختلاط الدم الفلسطيني بالتونسي في أكبر ضربة تلقتها منظمة التحرير الفلسطينية من قبل الاحتلال الصهيوني، لم يعتذر الكيان إلى اليوم على ما آتاه في حق الشعبين وفي حق الدولة التونسية، بل أعاد انتهاك سيادة تونس لاحقا باغتيال خليل الوزير ـ أبو جهاد ـ سنة 1988، ثم اغتيال صلاح خلف ـ أبو إياد ـ سنة 1991 على أرض تونس. 
 

galleries/فلسطن-نبض-الشعب-التونس-حن-اختلط-دم-الشعبن-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً