post

في ذكرى صبرا وشاتيلا: جناة معروفون .. وعدالة صمّاء!

الشرق الأوسط الخميس 16 سبتمبر 2021

مرآة تونس - هزار الفرشيشي  

ليس أبلغ مما غنته مجموعة ناس الغيوان المغربية، عن مجزرة "صبرا وشاتيلا"، ذلك الجرح الغائر في ضمير إنسانيتنا وفي أعماق كرامتنا العربية. إذ قالوا عنها: 
"الدنيا سكتات لعدا دارت ما بغات
الدنيا سكتات الصهيون دارت ما بغات
ف صبرا وشاتيلا المجزرة الكبيرة 
أطفال تذبحات شيوخ وعيالات 
السوايع وقفات الأرواح تحصرات 
السوايع وقفات الكتب تنهبات 
ف صبرا وشاتيلا كثرات لقتيلة 
ف جبال ووديان طيور وغابات" 

وتتضارب الأرقام حول عدد ضحايا المجزرة من المدنيين، وأغلب الظن أن الحصيلة الدقيقة للقتلى لن تُعرف أبداً، فتقديرات المخابرات العسكرية للاحتلال تشير إلى ما يتراوح بين 700 و800 قتيل، بينما قالت مصادر فلسطينية إن عدد القتلى بلغ بضعة آلاف. كما تشير العديد من الروايات، وبعضها لصحافيين أوروبيّين، أبرزهم الصحفي الفرنسي "آلان مينارغ" والفرنسي اليهودي "أمنون كابليوك"، الذي نشر كتابا عن المذبحة قال فيها إن الصليب الأحمر قد جمع جثث أكثر من 3000 من الأطفال والنساء والرجال العزّل والمسنّين. 
آلاف من الضّحايا لا يوجد بينهم عسكريّ واحد! 

حوامل بقرت بطونهنّ وأخرجت الأجنّة من أحشائهن 

أكثر من 80 يوما حاصر فيها جيش الاحتلال الصهيوني العاصمة بيروت، عقب اجتياح لبنان في صائفة 1982. حصار انتهى بمغادرة منظمة التحرير الفلسطينية للأراضي اللبنانية، لتشدّ الرحال إلى تونس عبر البحر. 
هجّر الفلسطينيون من أرضهم وأخرجوا عنوة ليحطوا رحالهم بالأراضي اللبنانية ويستقرّوا بمخيّمي "صبرا" و"شاتيلا" غرب بيروت، مثقلين بالوجع محمّلين بالأمل في العودة يوما إلى حضن الوطن، لكن الحياة ضربت لهم موعدا جديدا مع الأسى ذات يوم سمّي بالخميس الأسود، مساء السادس عشر من سبتمبر 1982. 
إبادة جماعية استغرقت 62 ساعة، أنتجت جثثا مقطّعة يتوزع الرصاص على كامل أجزائها، رؤوسا محطمة، أعينا مفقوءة، بطونا مبقورة، جثثا ملقاة في الطرقات، مقابر جماعية، نساء اغتصبن قبل قتلهن بوحشية، حوامل بقرت بطونهنّ وأخرجت الأجنّة من أحشائهن وعلّقن لأيام على جدران منازلهنّ. 

طلب المسلحون من سكّان المخيّمين عبر مكبرات الصوت أن يخرجوا من بيوتهم رافعين رايات بيضاء كي يعودوا إلى بيوتهم وأرضهم فلسطين، ثم انقضّوا على كل من لبّى نداءهم بكل وحشية ونفّذوا مجازرهم. كانوا يستدعون الشخص منادين اسمه، وعندما يأتي يطلقون عليه النار بأسلحة مزودة بكاتم للصوت. 
وروى الصحفي توماس فريدمان من صحيفة "نيويورك تايمز" ما شاهده قائلا: "رأيت في الأغلب مجموعات من الشبان في العشرينات والثلاثينات من عمرهم، صُفُّوا بمحاذاة الجدران، وقُيِّدوا من أيديهم وأقدامهم، ثم حُصدوا حصداً بوابل من طلقات المدافع الرشاشة بأسلوب عصابات الإجرام المحترفة". 

كانت المرأة تجبر على مغادرة منزلها عارية تماما قبل أن يتناوب على اغتصابها عدّة أفراد من المسلحين ثم يقتلونها أمام زوجها وأولادها بوحشية ويقطّعون أوصالها، وكان المسلّحون يطرقون أبواب البيوت ويخدعون متساكنيها بادّعائهم أنّهم جيرانهم ذاكرين اسم الجار، وما إن يفتح الباب، وقبل تنفيذ جريمتهم كانوا يسألون عن اسم الجار الموالي، ثم يقتلون أهل البيت، وينتقلون إلى بيت جيرانهم ليعيدوا نفس السيناريو. 
تفاصيل مرعبة خلّدتها صور المذبحة، ورواها النّاجون الذين أسعفتهم الأقدار للفرار بمعجزة، ليبقوا شاهدين على إحدى أبشع المجازر التي ارتكبت في حق الشّعب الفلسطيني. 


"العدوان الثلاثي" على المخيّمين 

قبل غروب شمس السادس عشر من سبتمبر، أي يومين بعد اغتيال الرئيس اللبناني بشير جميل، فرض الجيش الصهيوني حصارا محكما على مخيّمي صبرا وشاتيلا، ليسدّ كل سبل النجاة أمام سكانهما ويسهّل عملية اقتحامهما من قبل ملّيشيات لبنانية مسلّحة، متكونة من كل من "حزب الكتائب اللبنانية" المسيحي اليميني المتطرّف، تحت إمرة إيلي حبيقة، و"جيش لبنان الجنوبي" بقيادة سعد حدّاد. 
وكان حدّاد رائدا في الجيش اللبناني يقود وحدة عسكرية تضم 400 جندي في بلدة القليعة جنوب البلاد، لينشق لاحقا عن الجيش ويتحالف مع سلطات الاحتلال مؤسّسا ميليشيا "جيش لبنان الجنوبي"، المناهضة للوجود الفلسطيني على الأراضي اللبنانيّة، وأعلن يوم 19 أفريل 1979 عن قيام ما أسماه "دولة لبنان الحرّ" الخاضعة للسيطرة الكاملة للاحتلال، وقد توفي سعد حدّاد سنة 1984، وخلفه في قيادة جيش لبنان الجنوبي أنطوان لحد. 

أمّا عن إيلي حبيقة، فللرجل سجلّ حافل بالفاشية وبالأعمال الإجرامية، ليتمّ اغتياله بسيارة مفخخة شرق بيروت، سنة 2002، بعد تقلّده عدّة حقائب وزارية في الدولة. وقد وجّهت السلطات اللبنانية أصابع الاتهام باتجاه الكيان الصهيوني في تنفيذ عملية الاغتيال، إذ أن قتله جاء بعد إبدائه استعداده للإدلاء بشهادته أمام محكمة في بلجيكا تثبت تورط شارون بمجزرة صبرا وشاتيلا. 
وعن حزب الكتائب، فقد كان يراقب بخشية حلول وفود اللاجئين الفلسطينيين على أرض لبنان، فباستقرارهم في البلاد قد يحدثون خللا في التوازن الديمغرافي، فيتحول المسيحيون إلى أقلية، ويبدو أنّ السبب ذاته يقف لصدّ تشريع قوانين تسمح للمرأة اللبنانية المتزوجة من أجنبي بمنح جنسيتها لأبنائها، وإلا فما الذي يبرّر تقديم وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، سنة 2018، مشروع قرار إلى مجلس النواب يقضي بمنح المرأة اللبنانية حق إعطاء جنسيتها لأبنائها باستثناء المتزوجات من فلسطينيين وسوريين! 
وازدادت المخاوف مع تحوّل مخيمي صبرا وشاتيلا إلى حاضنة لوجود منظمة التحرير الفلسطينية، فاستغل المسلّحون خروج الفدائيين من الأراضي اللبنانية لتنفيذ مجزرتهم. 

الجناة معروفون .. والعدالة صمّاء! 

شكّلت حكومة الكيان الصهيوني في شهر نوفمبر سنة 1982، لجنة مستقلة متكونة من ثلاثة أفراد، للتحقيق في الأحداث التي وقعت بمخيّمي صبرا وشاتيلا، يطلق عليها "لجنة كاهان". 
وأوردت اللجنة اسم وزير الدفاع السابق للاحتلال، أرييل شارون، في نتائج تحقيقها باعتباره أحد الأفراد الذين "يتحملون مسؤولية شخصية" عن المذبحة. وتناول التقرير بشكل مفصّل الدور المباشر الذي قام به شارون، والمتمثّل في السماح لأفراد ميليشيا الكتائب بدخول مخيمي صبرا وشاتيلا، فقد شهد الجنرال "رفاييل إيتان"، رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال آنذاك، على سبيل المثال، بأن دخول الميليشيات للمخيمين تم بناءً على اتفاق بينه وبين وزير الدفاع السابق أرييل شارون. وفي وقت لاحق توجه شارون إلى المقر الرئيسي للكتائب اللبنانية حيث التقى بعدة أشخاص، من بينهم بعض قادة الكتائب. 

وأصدر مكتب وزير الدفاع السابق، شارون، وثيقة تتضمن "تلخيص وزير الدفاع لأحداث الخامس عشر من سبتمبر 1982"، وردت فيها العبارة الآتية: "لتنفيذ عملية المخيمين يجب إرسال ميليشيا الكتائب"، كما ذكرت هذه الوثيقة أن "قوات الدفاع الإسرائيلي سوف تتولى قيادة القوات في المنطقة". 

وفي شهادته أمام لجنة كاهان، قال شارون إن "أحداً لم يكن يتصور أن ميليشيا الكتائب سوف ترتكب مجزرة في المخيمين"، فكان ردّ اللجنة أنه "من المستحيل تبرير الاستخفاف -أي استخفاف أرييل شارون- بخطر وقوع مجزرة"، لأن "المرء لم يكن بحاجة إلى قدرة خارقة على التنبؤ لكي يدرك أن ثمة خطراً حقيقياً لوقوع أعمال القتل، عندما دخل أفراد ميليشيا الكتائب المخيمين دون أن تصحبهم قوات الجيش الإسرائيلي". 

ولم تتوقف اللجنة عند ذلك الحد، إذ قالت: "نحن نرى أن أي شخص له صلة بالأحداث في لبنان كان لا بد أن تساوره مخاوف من وقوع مجزرة في المخيمين، إن علم أن قوات الكتائب سوف تدخلهما دون أن تتولى قوات الدفاع الإسرائيلي الإشراف والرقابة عليها بصورة حقيقية وفعالة… وتُضاف إلى هذه الخلفية من العداء الذي تضمره الكتائب للفلسـطينيين -في المخيمين-، الصدمة العمـيقة -لوفاة بشير الجميل مؤخراً". 

واختتمت لجنة كاهان تقريرها بقولها: "نحن نرى أن وزير الدفاع ارتكب خطأً جسيماً حينما تجاهل خطر وقوع أفعال انتقامية وسفك للدماء على أيدي ميليشيات الكتائب ضد سكان المخيمين"، وأصدرت توصية نهائية بأن يُعفى شارون من منصب وزير الدفاع، وأن ينظر رئيس الوزراء آنذاك في إقالته من وظيفته، "إذا اقتضت الضرورة". 

تمّ تنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا في عهد رئيس وزراء الاحتلال، مناحيم بيجن، الذي حصل سنة 1978 على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الرئيس المصري أنور السادات، على خلفية توقيع اتفاقية كامب ديفيد. 

ومن المفارقات أن تاريخ 16 سبتمبر، الذي يشكّل نقطة سوداء في تاريخ الوطن العربي وفي ذاكرة كل نفس حرّ، هو اليوم الذي يلي تاريخ توقيع اتفاقية السلام بين الإمارات العربية المتحدة من جهة، وسلطات الاحتلال من جهة أخرى في واشنطن، بحضور وزير الخارجية البحريني الذي وقع بدوره إعلان السلام إلى جانب رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وذلك يوم 15 سبتمبر 2020. 

galleries/ذكر-صبرا-وشاتلا-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً