post

قوية كجبال وطنها .. تودّع ابنتها بوردة

الشرق الأوسط الأحد 26 سبتمبر 2021

مرآة تونس - هزار الفرشيشي 

بدا لي المشهد موغلا في الوجع إلى الحدّ الذي يصعب معه وصفه بالكلمات، أمّ مكلومة تغادر معتقلها لتتّجه مباشرة إلى حيث ترقد ابنتها التي غادرت الحياة في ربيع عمرها بلا مقدّمات. فراق حرمت فيه الأمّ –بلا أدنى مبرّر- من وداع إحدى ابنتيها وإلقاء النّظرة الأخيرة على وجهها قبل أن تشدّ الرّحال إلى عالم لا عودة منه. 

 

"قوية كجبال وطني" 

صبيحة الثاني عشر من جويلية 2021، علمت القيادية الفلسطينية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعضو المجلس التشريعي، خالدة جرّار، من داخل سجنها، بخبر وفاة ابنتها سهى جرّار في الليلة المنقضية إثر إصابتها بنوبة قلبية حادّة. التقت خالدة بعد ذلك بدقائق بمحامييها ليؤكّدا لها الخبر ويقدّما لها التعازي، وعن ذلك الموقف، روت المحامية حنان الخطيب ما حدث لوسائل الإعلام المحلية الفلسطينية قائلة إنّ "الأسيرة خالدة جرار تلقّت خبر وفاة ابنتها بحزن ولكن بصبر وهي قوية"، وأضافت: "موقف صعب لنا كمحامين أن نُعلم النائب خالدة جرار بوفاة ابنتها، وليلتها لم أنم، فماذا أقول لها؟ صبيحة ذلك اليوم انطلقنا أنا وهبة مصالحة (من قبل هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين) ومحمود حسان (محامي خالدة جرار من مؤسسة الضمير) لزيارتها. وبعد سلسلة إجراءات، دخلنا وتم إحضار خالدة بصحبة صديقتها ورفيقة الأسر ختام سعافين التي كانت تمسك بيدها. كانت خالدة تنظر إلينا بنظرات كأنها تريد أن تقول لنا أرجوكم قولوا لي إن الخبر غير صحيح، بعدها استرقنا لحظة وحضنّاها، وهو شيء ممنوع حسب إدارة السجن، ولكن ردة فعلنا كانت طبيعية وعفوية. وبقلب يعتصره الألم قالت لنا: أنا مشتاقيتلها لسهى، وبالرغم من الخبر المؤلم والوجع الكبير سلّموا على الكل وطمنوهن عني وأخبروهم أنني قوية، آه قوية". 

تقدم محامو خالدة بمطلب إفراج عنها لتتمكّن من حضور جنازة ابنتها وإلقاء نظرة الوداع عليها، لكنّ المطلب قوبل بالرفض من قبل سلطات سجن "الدامون" أين تقبع المعتقلة، بحجّة أن خالدة جرّار تشكّل خطرا داخل السجن وخارجه، فعقبه مطلب ثان بالسماح بنقل الجثمان إلى السّجن جوبه هو الآخر بالرّفض، مكتفين بمنحها مكالمة هاتفية مع زوجها كـ "بادرة إنسانية". 
في المقابل تحرّكت المنظّمات الحقوقية الوطنية والدولية لمطالبة الاحتلال بتمكين خالدة جرار من توديع ابنتها، كما ضجّت الشوارع الفلسطينية بأصوات المحتجّين على إمعان الكيان الصهيوني في إذلال معتقليه وفي إيذائهم في كافة جوانب حياتهم، والمنادين بالإفراج عن خالدة لتودّع ابنتها، فاعترضتهم قوات الاحتلال بالغاز المسيل للدموع. 

 

وشيّع الآلاف في رام الله جثمان سهى جرّار، إلى مثواها الأخير في مقبرة رام الله الجديدة، بعد أداء صلاة الجنازة عليها في مسجد العين بمدينة البيرة، وأقيمت الجنازة بمشاركة رسمية وشعبية وبحضور قيادات من مختلف الفصائل الفلسطينية. كما نقل تلفزيون فلسطين الرسمي، مراسم التشييع على الهواء مباشرة، لكي تتابع خالدة جنازة ابنتها أمام الشاشة، وخلف قضبان سجنها وتودّعها بإكليل من الزّهور مكتوب عليه "حرموني من وداعك بقبلة، أودّعك بوردة – أمك المحبة، خالدة". 

الفقد المرّ مرّتين 

ليست المرّة الأولى التي تعيش فيها خالدة جرار لوعة الفراق والفقد وهي داخل غياهب السجون، فقد فقدت والدها خلال سجنها الأخير سنة 2019، وخالدة ليست الحالة الوحيدة في سجون الاحتلال التي ترفض السلطات الإفراج عنها لتشييع جثمان أحد أفراد عائلتها، ويتذرّع الاحتلال عادة بصعوبة ضبط الوضع والسيطرة عليه خلال الجنائز بسبب المواجهات. فعلى غرار خالدة، نذكر على سبيل المثال الأسير المحرّر نضال دغلس، الذي فقد خلال التسعة عشر عاما من سجنه، والدته سنة 2004، والتي لم يكن قد رآها سوى مرة واحدة داخل قاعة المحكمة لمدّة دقيقتين فقط، ليفقد والده سنة 2015، ويحرم من حضور الجنازتين. 

 

من جانب آخر، وبنفس القدر من الوجع، فقدت الساحة الحقوقية العربية، في 19 جوان المنقضي، المعارضة الإماراتية والمدافعة عن حقوق المعتقلين ذات الـ 33 ربيعا، آلاء الصديق، إثر حادث سير في المملكة المتّحدة، خلال فترة سجن والدها، محمد عبد الرزاق الصديق، الذي اعتقل سنة 2013 وحكم عليه بالسجن لعشر سنوات، إضافة إلى عشرات آخرين وجهت لهم تهمة محاولة الانقلاب، في محاكمة وصفتها منظمات حقوقية دولية بغير العادلة. نقل جثمان آلاء الصديق لتدفن في قطر أين تقيم عائلتها، فأمثال آلاء لا مكان لهم في أوطانهم التي ناضلوا ليروها حرّة من براثن الدكتاتوريات، لتوارى الثرى بعيدا عن أرضها وعن والدها الذي حرمه الاعتقال من وداعها. 


ويذكر أن صحيفة "الغارديان" قد نشرت هذا الأسبوع تقريرا لمراسلتها في واشنطن، ستيفاني كريشغاسنر، أفادت فيه احتمالا كبيرا بأن الناشطة الإماراتية آلاء الصديق قد تعرضت لعملية تنصت من حكومة اشترت برنامج التجسس على الهواتف "بيغاسوس" الذي صنعته الشركة الصهيونية   "NSO". وورد في التقرير أنه "حتى في الموت لا تجد آلاء الصديق الراحة. فعندما وصل جثمان آلاء، 33 عاما إلى المسجد المركزي في ريجينت باراك ابتعد عدد من المعزين عنه، لأنهم لم يكونوا راغبين برؤيتهم بين جموع المصلين خشية وجود كاميرات سرية في المسجد تصورهم، وظهورهم في الصور يعني ارتباطا بالناشطة والباحثة مما يعرضهم وعائلاتهم للخطر". كما أفاد التقرير بوضع الإمارات قائمة بالهواتف الجوّالة ضمن تسريبات "مشروع بيغاسوس"، وعدد منهم لمعارضين وناشطين يعيشون في بريطانيا. 

مسيرة نضاليّة خالدة 

في 20 أوت 2014، حاصرت مجموعة متكونة من قرابة 50 جندياً من جيش الاحتلال منزل خالدة جرار في رام الله، وأصدر أمر بطردها يتضمن إفادة بأنها "تشكّل تهديدا لأمن المنطقة"، وأن عليها مغادرة منزلها والانتقال إلى منطقة أريحا، حيث كان من المقرر أن تعيش في ظل "بروتوكول تقييد الحركة" لمدة حدّدت بستّة أشهر، لكن خالدة رفضت الأمر قائلة: "الاحتلال هو من يجب أن يغادر وطننا"، لتستأنف القرار أمام محاكم الاحتلال، فحكم بتخفيض فترة الحظر من 6 أشهر إلى شهرٍ واحد، لكن خالدة لم تنصع للقرار ولم تغادر رام الله.


اعتقلت خالدة جرّار للمرة الأولى في أفريل سنة 2015، بتهمة الانتماء لتنظيم محظور –الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- وأجّلت محاكمتها مرارا على مدى أشهر، وفي ديسمبر 2015، قضت المحكمة العسكرية بسجنها 15 شهرا. 
نقلت خالدة خلال فترة سجنها أكثر من مرة إلى المستشفى، بسبب ظروف صحية زادت من حدّتها ظروف الاعتقال السيئة. وفي 3 جوان 2016، أفرج عن القيادية بالجبهة الشعبية لتواصل نضالها وتصعيدها في وجه الاحتلال، لتعتقل مجدّدا بتاريخ 2 جويلية 2017، ليفرج عنها في 28 فيفري 2019، وذلك بعد أن قضت 20 شهراً من الاعتقال الإداري دون توجيه أي تهمة ضدها أو محاكمتها. 


في أكتوبر 2019، أعيد اعتقال خالدة عقب مقتل مستوطنة تبلغ 17 عاما من العمر في هجوم في الضفة الغربية نسبته سلطات الاحتلال إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليلقى القبض على خالدة من منزلها في رام الله خلال عملية استهدفت شخصيات فلسطينية مختلفة، فحكم عليها بالسجن عامين بتهمة المشاركة في أنشطة الجبهة الشعبية، ليطلق سراحها اليوم الأحد، فتتوجّه مباشرة إلى المقبرة أين ترقد ابنتها التي حرمت من توديعها منذ شهرين. 
 

galleries/قو-كجبال-وطنها-تودع-ابنتها-بورد-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً