post

قيس سعيد والنهضة: معركة كسر عظام تعمق الانقسام السياسي

تونس الأربعاء 23 فيفري 2022

مرآة تونس - محمد ياسين الجلاصي 

أنهت الحالة الاستثنائية التي أعلنها الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 جويلية  حالة الاستقطاب الثنائي الحاد بين حزب النهضة الإسلامي والحزب الدستوري (المحسوب على النظام السابق)، ليتحول بذلك إلى استقطاب بين حزب النهضة والرئيس قيس سعيد الذي علق أشغال المجلس النيابي وأقال الحكومة المدعومة من النهضة. وأصبحت المعركة قائمة على أساس "انهاء الانقلاب" بعد أن كان عنوانها قبل 25 يوليو التنافس على الحكم بين النهضة والحزب الدستوري، صحيح أن الصراع بين النهضة والرئيس سابق للحالة الاستثنائية لكن الانقسام الذي بدأ يظهر في الشارع بينهما منذ أشهر يتعمق شيئا فشيئا وسط مخاوف من أزمة شرعية قد تهدد مؤسسات الدولة ووحدتها.

لم تتجه حركة النهضة نحو المواجهة المباشرة والمفتوحة مع الرئيس قيس سعيد غداة انفراد هذا الأخير بالسلطة الصيف الماضي، بل كان خطابها يراوح بين الدعوة إلى حوار وطني يفرز شرعية توافقية أو انتخابية جديدة، وبين تحمل للمسؤولية عما آلت إليه الامور بسبب خياراتها السياسية التي أدت إلى غضب شعبي واحتقان اجتماعي ومأساة صحية وهو ما استغله قيس سعيد ليعلن التدابير الاستثنائية. بل إنها لم تنزل بثقلها إلى الشارع دفاعا عن المجلس النيابي الذي كانت تملك فيه أغلبية مساندة للحكومة واكتفت ببيانات داعية إلى التهدئة والحوار، حتى إن بعضا من قياداتها صرحوا بأن ما قام به الرئيس قيس سعيد كان ضروريا لإحداث الصدمة وإنهاء حالة العبث السياسي التي رافقت حكومة هشام المشيشي المدعومة بقوة من تحالف النهضة وحزب رجل الأعمال نبيل القروي وائتلاف الكرامة.
إذن ظلت النهضة طيلة الأسابيع التي أعقبت 25 يوليو تطالب بحوار وطني يجدد الشرعية الانتخابية دون أن تتجرأ حتى على رفع مطالب على شاكلة عودة مجلس النواب لنشاطه من جديد، وذلك خشية منها للمزاج الشعبي الذي كان يرفض عودة هذه المؤسسة التشريعية بسبب أداءها المثير لسخط وغضب التونسيين وعراكهم الدائم وخصوماتهم التي بلغت حد تبادل العنف والضرب. وفي المقابل اكتفى قيس سعيد آنذاك ببيان إعلان التدابير الاستثنائية دون أن يقدم على أية إجراءات مرافقة أو تقديم خارطة طريق توضح للشعب مآل الأوضاع ومستقبل البلاد في ظل الوضع الجديد، بل إن الرئيس فقد الكثير من تأييد الناس والنخب بسبب تردده وعدم وضوح رؤيته خاصة وأنه ترك البلاد لأكثر من شهرين دون حكومة ودون خارطة طريق للمستقبل مما عمق الحيرة ودفع بعديد القوى إلى إعلانها معارضته.
وكانت هذه الفترة حاسمة في مسار الصراع بين الطرفين، حيث قررت النهضة النزول إلى الشارع ضمن تحالف "مواطنون ضد الانقلاب" للمطالبة بعودة الديمقراطية، وكثفت من تحركاتها المحلية والدولية وصعدت من خطابها ضد قيس سعيد، ودأب قادتها على استعمال لفظ انقلاب بعد أن كانت تصف الوضع القائم بالحالة الاستثنائية. وبذلك تحول الصراع السياسي المحتشم إلى مواجهة مفتوحة في الشارع وفي وسائل الاعلام وحتى في العواصم الغربية وفي دوائر صنع القرار خاصة في الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي. هذا التصعيد واجهه قيس سعيد بتصعيد مقابل من خلال إصداره للأمر الرئاسي 117 الذي نظم عملية احتكاره لجميع السلطات، وخطاباته العنيفة التي تتوعد بتطهير أجهزة الدولة من الفاسدين، وأيضا من خلال اقتراحه لخارطة طريق تتضمن تعليق أعمال البرلمان إلى حدود ديسمبر 2022 واجراء استفتاء على دستور جديد للبلاد وانتخابات برلمانية موفى العام الجاري، أي أنه ماض في مشروعه إلى النهاية مهما كانت التكاليف.

تصعيد وتصعيد مضاد

لم يقتصر تصعيد قيس سعيد على إعلانه مواعيد سياسية "مصيرية" قد تغير وجه النظام السياسي في تونس، هذا إذا نجح في الوصول إلى الاستحقاقات المذكورة، بل عمد إلى وضع النهضة في زاوية عبر إيقاف القيادي البارز فيها نور الدين البحيري ووضعه قيد الإقامة الجبرية (أحد أبرز قياداتها التاريخية والعقل المدبر لجل التحالفات التي أقامتها النهضة في السنوات الأخيرة) بالإضافة إلى فتح ملف "الجهاز السري" للنهضة. وقد استغل قيس سعيد مساعي هيئة الدفاع عن المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي للكشف عن حقيقة الاغتيال التي ذهب ضحيتها هذين القياديين البارزين في 2013 ليكلف وزير العدل في حكومته بفتح تحقيق في شبهة حيازة النهضة لتنظيم سري متورط في عمليات ضد الدولة. ويدرك قيس سعيد جيدا أن هذا الموضوع يربك قيادة النهضة ويضعها في موضع الدفاع عن النفس ضد اتهامات لها بالوقوف وراء الاغتيالات بطريقة أو بأخرى، خاصة وأن هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي نشرت في عديد المناسبات وثائق قالت إنها تثبت امتلاك النهضة لجهاز سري عمل على اختراق الأمن والتنصت على المواطنين وإخفاء الملفات القضائية. وهو ما أثار مخاوف لدى النهضة من إمكانية تصفيتها، أو تصفية جزء من قياداتها البارزة على رأسهم راشد الغنوشي، قضائيا مثلما تمت تصفيتها أمنيا في بداية تسعينات القرن الماضي مع بداية حكم بن علي.
لم يكن إيقاع قيس سعيد متناسقا مع ما يعلنه من "أفكار وتوجهات وتصورات جديدة"، بالعكس فقد كان ومازال شديد التردد والاسترجال حتى انفض عنه أكثر مسانديه خاصة من الأحزاب السياسية التي دعمت مسار 25 يوليو، هذا التردد مكن خصومه من رص صفوفهم وتصعيد خطابهم المناهض لقيس سعيد وتنظيم خروجهم الدوري إلى الشارع والساحات العامة للتظاهر ضد الانقلاب. هذا التصعيد المتبادل زاد في ارتباك قيس سعيد أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، ووجد نفسه في مقابلاته مع الشخصيات الوطنية والأجنبية خاصة منها الرسمية في موضع المدافع عن نفسه والمضطر دوما لإعادة تفسير الظروف والأسباب التي دفعته للانفراد بالسلطة. تبريرات يسعى من خلاله إلى الحصول على دعم القوى الغربية التي يعول عليها لإنقاذ الاقتصاد المتهالك منذ سنوات، لكن هذه الدول تشترط إصلاحات سياسية ونظاما قائما على التمثيل النيابي مقابل دعمها لتونس. وهذا هو المأزق الذي وضع فيه قيس سعيد نفسه ولم يخطط لتجاوزه منذ البداية، ويبدو أن النهضة عرفت كيف تلعب على هذا الجانب جيدا عبر تنقلات قيادييها بين العواصم وممارسة الضغط (اللوبيينغ) واستغلال الامكانيات المادية المتوفرة لديها لإحراج سعيد وارباكه خاصة في زياراته الخارجية القليلة.
ما يلاحظه الجميع أن قيس سعيد والنهضة يتجهان نحو التصادم العنيف اذا ما تواصل التصعيد المتبادل، وأنه لا أفق لحل سياسي طالما لا أحد منهما يعترف بشرعية الآخر: فالرئيس يعتبر نفسه صاحب التفويض الشعبي والمبشر بممارسة سياسية جديدة تقطع مع الماضي وخاصة مع ممارسات حركة النهضة في الحكم طيلة العشرية الماضية، فيما تتمسك النهضة بعدم شرعية الرئيس قيس سعيد باعتباره منقلبا على الدستور ومحتكرا لجميع السلطات وأن الحل الوحيد هو عودة المؤسسات الشرعية بما في ذلك البرلمان المعلقة أشغاله، أي أننا تجاه طرفي نقيض لم يجدا بعد أي نقطة التقاء ضمن ما يُعرف بالتوافق التاريخي، وهو ما لم تتوفر ظروفه إلى حد الآن. وهنا يأتي دور اللاعب الجديد-القديم في الساحة الوطنية وهو الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أنهى أشغال مؤتمره وجدد لقيادته لولاية جديدة وعاد ليتفرغ للشأن العام بعد أن أنهكته وشغلته التجاذبات الداخلية والجبهة الرافضة لمبدأ التمديد للقيادة، إذن عاد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل بخطاب آخر دعا فيه الرئيس قيس سعيد وخصومه إلى التنازل والتراجع خطوة من أجل بناء اتفاقات سياسية قد تهني حالة الانقسام السياسي. وحسب الطبوبي فإن وضع ما بعد 25 يوليو أصبح أمرا واقعا لا يمكن انكاره وعلى المعارضين قبول هذا الأمر الواقع والتعامل معه، وفي المقابل على الرئيس التراجع لخطوة والاقتناع بأن خارطة الطريق التي اقترحها لا معنى لها سياسيا خاصة مع الاقبال الضعيف على الاستشارة الالكترونية التي بنى عليها قيس سعيد تصوره لتجديد الشرعية. لن تقبل الساحة السياسية سوى تنازلات من جميع الأطراف والقبول بحوار سياسي يهدف إلى تعديل النظام الانتخابي والمرور إلى تجديد الشرعية عبر انتخابات عامة.

galleries/قس-سعد-والنهض-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً