post

معركة بئر السبع 1938 .. فصل ملحمي من فصول الثورة الفلسطينية الكبرى

الشرق الأوسط الخميس 09 سبتمبر 2021

مرآة تونس - هزار الفرشيشي

"إن ما عكرت ما صفيت"، مثل شعبي توارثه الفلسطينيون جيلا بعد جيل للحضّ على الثورة في وجه المعتدين على الأرض ومنتهكي العرض. ذلك الشعب الذي ما فتئ يخطّ بعزمه صفحات تنبض عزّة وشهامة في تاريخ الوطن العربي، ولم يلن يوما في وجه الظلم رغم تتالي النكبات والخيبات. 

وتعدّدت أشكال المقاومة عبر تاريخ القضية الفلسطينية، بين الحجارة والقلم والبندقية وغيرها من الوسائل التي ينصهر أمام عزمها الفولاذ. مقاومة طالما كسرت أمامها شوكة الاحتلال الصهيوني ومن قبله البريطاني، تنوعت فصولها، وتعدّدت انتصاراتها وانكساراتها.

وخضعت فلسطين خلال الفترة الممتدّة بين سنتي 1917 و1948، إلى الاحتلال البريطاني، وشهدت في تلك الفترة العديد من الثورات والهبّات والانتفاضات الشعبية، منها ما أخذ شكل التظاهر السلمي ومنها ما أخذ طابعا عسكريًا، ومنها ما جمع بين كلا الأمرين. 

من العمل السياسي إلى الكفاح المسلح 

بعد إخماد ثورة البراق سنة 1929، حين أراد الصهاينة اقتحام المسجد الأقصى وإقامة الاحتفالات الدينية عند حائط البراق، اتجهت أنظار القوى الحيّة الفلسطينية إلى ضرورة توجيه المقاومة نحو البريطانيين لا نحو الصهاينة وحدهم، فقد كانوا الدّاعم الأساسي للحركة الصهيونية ولمشروعها، خصوصا مع صدور "وعد من لا يملك لمن لا يستحق"، وعد بلفور سنة 1917، الذي تعهدت بمقتضاه الحكومة البريطانية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. فاندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936، بعد تتالي جملة من الأحداث والعوامل التي أدت إلى انطلاقها. 


وكان ارتفاع تدفّق اليهود المهاجرين على الأراضي الفلسطينية بمباركة وحماية الحكومة البريطانية، لاسيّما بعد تولّي النازية الحكم في ألمانيا، وتفاقم خطر استيلائهم على الأراضي، علاوة على تهريب الأسلحة والعتاد إلى المدن والمستعمرات الصهيونية ومضيّهم في إنشاء مجموعات وتنظيمات عسكرية اشترك الضباط الإنجليز في تدريبها، وتنامي الأعمال الإرهابية ضد العرب، من بين أبرز مسبّبات الثورة الكبرى. 

كما لعب المؤتمر الإسلامي الذي انعقد بالقدس سنة 1931 عقب ثورة البراق دورا في تنمية الوعي بمخاطر تهويد المسجد الأقصى والزحف الصهيوني على الأراضي الفلسطينية، وقد كان الشيخ عبد العزيز الثعالبي من بين من حضروا المؤتمر. 

وبدأت المواجهة مع السلطات البريطانية تأخذ الطابع المدني في بداية الثلاثينات، عبر تكوين الأحزاب على غرار "حزب الاستقلال" و"الحزب العربي الفلسطيني" وإصدار العرائض والبيانات، ثم تطوّر الأمر إلى الجهاد المسلّح من خلال إنشاء مجموعات مسلحة. ففي أكتوبر 1933، دعت مختلف القوى الفلسطينية إلى إضراب عامّ جوبه بالقمع والرصاص الحيّ من قبل الإنجليز ليرتقي 35 شهيدا فلسطينيا وجرح 255 آخرين، وشكّلت انتفاضة 1933 منعرجا بالغ الأهمية في تلك الفترة وفي تاريخ القضية ككلّ، حيث كان المنطلق للتفكير في خيار المقاومة المسلّحة. 

ثم تكوّنت ما عرفت بخلايا "الكفّ الأخضر"، وهي مجموعة مسلحة أسّسها المجاهد أحمد طافش، وقد قامت المجموعة بعمليات اختطاف وقتل للسماسرة الذين كانوا يقومون ببيع الأراضي للصهاينة في طبريا وصفد، إلا أن عملياتها لم تدم طويلا حيث تصدّت لها السلطات البريطانية بعنف وأخمدت نشاطها. 

كما شهدت سنة 1935 إطلاق الشرارة الأولى للثورة الكبرى فيما يعرف بثورة القسّام، التي تجسّد من خلالها عدم جدوى العمل السياسي أمام الحركة الصهيونية ووجوب المضي في مسار الكفاح المسلح، حيث بدأ الشيخ عز الدين القسام جهاده من جنين، ليتمّ اكتشاف مخبئه ويستشهد إثر مواجهات مع الإنجليز رفض خلالها الاستسلام. 

الثورة الكبرى في مواجهة الدعائم الصهيونية الأولى  

بحلول سنة 1936، اندلعت أطول الثورات الفلسطينية التي امتدت إلى سنة 1939، وأطلق عليها الثورة الكبرى. وشهدت ثورة 1936-1939 أطول إضراب سياسي شمل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية في تاريخ الإنسانية، حيث امتدّ من 20 أفريل إلى 12 أكتوبر 1936. 

وتنقسم أطوار الثورة الفلسطينية الكبرى إلى ثلاثة: 
•    طور اندلاع الثورة (امتدّ إلى غاية جويلية 1937): 
هاجم أتباع الشّهيد القسام قافلة من الشاحنات بين نابلس وطولكرم، وقاموا بقتل سائقين يهوديين. وكردّ فعل قامت المنظمة الصهيونية "الإرغون" في اليوم الموالي بقتل عاملين فلسطينيين، لتشهد تل أبيب ويافا مواجهات دامية. عقب تلك الأحداث، شُكلت في نابلس لجنة وطنية بتاريخ 19 أفريل، تم من خلالها الاتفاق على إعلان الإضراب، كما شُكلت لجان وطنية في عدّة مدن أخرى دعت بدورها إلى الإضراب. وبتاريخ 25 أفريل 1936، شكّلت اللجنة العربية العليا لتنسيق ودعم الإضراب الوطني العام الذي انطلق يوم 8 ماي من نفس السنة. 

رافقت الإضراب العام هجمات مسلّحة عفوية وغير منتظمة استهدفت أهدافا بريطانية وصهيونية، لكنها بدأت تنتظم في فترة لاحقة وانضمّت إليها سواعد عربية من خارج البلاد بأعداد قليلة. وبتزايد العمليات الجهادية، زاد القمع البريطاني ضد الفلسطينيين ووصل إلى درجة هدم أحياء بأكملها في مدينة يافا القديمة. وتزامن ذلك مع إرسال الحكومة البريطانية للجنة تحقيق برئاسة "اللورد بيل" لتحقق في "أسباب التمرد". 

ستّة أشهر من الإضراب المتواصل، ليوقف سريانه يوم 11 أكتوبر 1936 مع تتالي الضغوط البريطانية والعربية إضافة إلى نتائجه الوخيمة على الاقتصاد. كما وافقت اللجنة العربية العليا على التعاون مع لجنة اللورد بيل، فانخفضت حدّة التوترات بصفة مؤقتة إلى أن صدرت نتائج تحقيق اللجنة في جويلية 1937 التي أوصت بتقسيم فلسطين إلى دولتين، دولة عربية وأخرى يهودية. توصيات مخيبة للآمال أطلقتها اللجنة فاندلع الكفاح المسلح مجددا وكان أكثر شراسة ممّا سبق، لتدخل الثورة الكبرى مرحلتها الثانية.

•    طور المواجهات العنيفة (استمرت إلى خريف 1939):
شهدت هذه المرحلة انتصارات عديدة للثوار الفلسطينيين، حيث سيطروا على مساحات شاسعة من الأراضي، فاستبدلوا فيها مؤسسات الاحتلال البريطاني كالمحاكم بمؤسسات وطنية، ما زاد في وتيرة العنف والقمع من طرف الإنجليز ضد الشعب الفلسطيني وأعلنوا عدم شرعية اللجنة العربية العليا وكل الأحزاب الوطنية الفلسطينية. 

وفي ظل تزايد الانتهاكات في حق الفلسطينيين، استفادت المؤسسات العسكرية الصهيونية من الوضع لبناء قدراتها وهياكلها بدعم السلطات البريطانية، وبحلول مطلع سنة 1939، حصل 14 ألف عنصر من "شرطة المستعمرات اليهودية" على الزي الرسمي والسلاح من طرف الحكومة البريطانية.


•    طور الانقسام وإخماد الثورة (انتهى بنهاية صيف 1939): 
أرسلت الحكومة البريطانية لجنة ثانية للتحقيق بقيادة "السير جون وودهيد"، لدراسة الجانب العملي في مسألة التقسيم، لكن اللجنة خلصت إلى عدم عملية توصية لجنة اللورد بيل، ما جعل السلطات البريطانية تتراجع عن دعم التوصية. لكنها مضت في الآن نفسه في تشديد القمع على الفلسطينيين، ما عزّز الضغوط على الثوار الذين انقسموا إلى شق ملتزم بالكفاح المسلّح، وآخر مستعدّ للتوصل إلى تسوية مع الإنجليز. 

في ماي 1939، نشرت السلطات البريطانية "الكتاب الأبيض" الذي أكدت من خلاله وفاءها بتعهدها تجاه اليهود بوطن قومي يجمعهم، وسمحت باستمرار التوافد اليهودي على فلسطين وباستحواذهم على الأراضي فيها. 

وبنهاية صيف 1939، وصلت الثورة إلى نهايتها، مخلّفة حوالي 5 آلاف شهيد وجرح ما يقارب 15 ألف فلسطيني، علاوة على تشتت القيادات الفلسطينية بين المنفى والسجون والمقابر. 

وعن أسباب إجهاض الثورة الفلسطينية الكُبرى، يرى غسان كنفاني، أنّ ذلك يعود إلى معاناة الحركة الثورية الفلسطينية من انتكاسة شديدة على أيدي ثلاثة أعداء منفصلين كانوا يشكلون معا التهديد الرئيسي للحركة القومية في فلسطين في جميع المراحل اللاحقة من نضالها 1936 ـ 1939، ويتمثل هذا الثلاثي في "القيادة الرجعية المحلية، الأنظمة في الدول العربية المحيطة بفلسطين، والعدو الإمبريالي الصهيوني". 


معركة بئر السبع .. إحدى انتصارات الثورة الكبرى 

لم يتوقع الاحتلال البريطاني أنّ شرارة الثورة ستمتد إلى منطقة بئر السبع بالجنوب الفلسطيني، حيث لم تكن أعداد الصهاينة بها كبيرة، علاوة على بعدها الجغرافي، لكن كان للثوار رأي مخالف. 

فظهر التاسع من سبتمبر 1938، كان موعد ساعة الصفر لعملية بئر السبع التي تمّت بقيادة القائد العسكري لمنطقة الخليل، عبد الحليم الجولاني الملقّب بـ "الشلف"، حيث هاجم رفقة 60 مجاهدا الجيش البريطاني بعد فترة طويلة من رصد تحركاته بمساعدة عدد من المدرسين الذين كانوا يعملون في مدينة بئر السبع في كنف السرية التّامة. 

أمر الجولاني مجموعة من الثوار بالتمركز على طريق القدس-الخليل، فيما تولّت مجموعة أخرى حراسة جنوب الخليل وقطع طريق غزّة-الخليل لمنع وصول التعزيزات البريطانية لبئر السبع. 


وبعد تطويق المدينة من جهاتها الأربع، تمكن فصيل القيادة من دخولها والاستيلاء على مخازن السلاح، فغنم 250 بندقية ورشّاشا و50 صندوق ذخيرة و50 مسدّسا وحوالي 200 قنبلة و100 بندقية من النوع القديم، علاوة على عدد كبير من الخوذات والألبسة، وعلى مدفع رشاش سريع الطلقات مع حقيبتي غيار له، استخدمه الثوار لاحقا في إسقاط طائرتين بريطانيتين في معركة "جورة بحلص" التي وقعت في شهر أكتوبر من نفس السنة، وبذلك استطاع الجولاني تسليح بعض أفراد الشعب والتفرغ للعمليات الحربية بصورة أكثر تنظيما.

قتل المجاهدون قائد البوليس البريطاني، وأصيب العشرات من الجنود الإنجليز، وحرّر الأسرى العرب وسلّم كل منهم سلاحا، كما أحرق مركز الشرطة وأحرقت الدوائر الحكومية بعد مصادرة بعض الوثائق المهمة. 
وفي اليوم الموالي، انتهت العملية ونفض الثوار عنهم غبار المعركة خالين من أي خسائر، محمّلين بالانتصارات والشموخ والأنفة، ليذكر التاريخ معركة بئر السبع كأول معركة ضخمة يشهدها جنوب فلسطين.
 

galleries/معرك-بر-السبع-1938-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً