post

مقدمة عبد الرحمان ابن خلدون

ثقافة وفن الأربعاء 13 أفريل 2022

المقدمة هو كتاب ألفه المؤرخ ومؤسس علم الاجتماع، عبد الرحمان بن محمد بن خلدون الحضرمي، سنة 1377 م، كمقدمة لمؤلفه الضخم كتاب "العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر".

 واعتبرت المقدمة لاحقاً مؤلفاً منفصلاً ذا طابع موسوعي، إذ يتناول فيه كاتبه جميع ميادين المعرفة من الشريعة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والطب. وقد تناول فيه أحوال البشر واختلافات طبائعهم والبيئة وأثرها في الإنسان.

كما تناول ابن خلدون بالدراسة تطوّر الأمم والشعوب ونشوء الدولة وأسباب انهيارها، مركّزاً في تفسير ذلك على مفهوم العصبية.

بهذا الكتاب، سبق المؤرخ، تونسي المولد أندلسي الأصل، غيره من المفكرين إلى العديد من الآراء والأفكار حتى اعتبر مؤسساً لعلم الاجتماع، سابقاً بذلك الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت.

ويمكن تلخيص المقدمة في مجموعة نظريات وأسس وضعها ابن خلدون لتجعل منه المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع، عكس ما يدعيه علماء الغرب أن المؤسس الحقيقي هو كونت.

ومن خلال الاطّلاع على المقدمة، يمكن وضع ثلاثة مفاهيم أساسية تؤكد ذلك، وهي أن ابن خلدون في مقدمته بَيَّن أن المجتمعات البشرية تسير وتمضي وفق قوانين معيّنة، وهذه القوانين تسمح بقدر من التنبؤ بالمستقبل إذا ما دُرست وفُقهت جيداً، وأن هذا العلم ، الّذي أطلق عليه علم العمران، لا يتأثر بالحوادث الفردية وإنما يتأثر بالمجتمعات ككل.

وأخيراً أكَّدَ ابن خلدون أن هذه القوانين يمكن تطبيقها على مجتمعات تعيش في أزمنة مختلفة بشرط أن تكون البُنى واحدة في جميعها، فمثلا المجتمع الزراعي هو نفس المجتمع الزراعي بعد 100 سنة أو في العصر نفسه. وبهذا يكون ابن خلدون هو من وضع الأسس الحقيقية لعلم الاجتماع.

يقول المؤلف في الباب الأوّل من كتابه إنّ الإنسان اجتماعيٌّ بطبعه وإن لم يحب ذلك، فالحياة عبارة عن علاقات تترتب بعضها على بعض، سواءً بين البشر أو بين الحيوانات.

فمن المستحيل أن يستطيع الإنسان أن يعيش بمفرده تماما، لأن حياته تحتم عليه التعامل مع الغير وإن بطريقة غير مباشرة، فإن حاول أن يكتفي بنفسه لن يفلح، فعلى سبيل المثال إن أراد أن يأكل، فهو يحتاج إلى خبز، والخبز يحتاج لمن يزرعه وهو حبٌّ في الأساس ثم من يسقيه، ثم من يحصده، ثم من يجعله طحينا، ثم من يجعله خبزا في نهاية المطاف. 

كما يحتاج الإنسان، وفقا لابن خلدون، إلى النّاس من حوله لتحقيق الأمان، وذلك لأنه لا يملك القوة الكافية التي يستطيع بها الدفاع عن نفسه وحقوقه بمفرده على عكس الكثير من الدواب.

فعلى الرغم من أن العديد من الحيوانات أقوى منه، على غرار الأسد والحمار والفرس والفيل، إلّا أنّ الله عزّ وجلّ قد وهب الإنسان العقل، فقوّة العقل تُضاعف قوة الجسد بمئات المرات.  

أمّا في الباب الثاني، فيذكر ابن خلدون أنّه ينتج اختلاف أحوال البشر عن اختلاف طريقتهم في العيش، وما اجتماعهم إلا ناتج طبيعي عن تكاتفهم لتحصيل العيش، فمثلا منهم من يقوم بأمور الفلاحة من الغرس والحصاد، ومنهم من يقوم بخدمة الحيوانات كتقديم الطعام وغيره من الأمور، وهذان القسمان تجبرهما الطبيعة على اللجوء إلى البدو لما فيه من المسافات الشاسعة التي تمكّنهم من توفير أماكن جيدة للحيوانات.

وقد ترتّب على ذلك تعاونهم ليحققوا التكامل والاكتفاء دون الحاجة لما هو خارج محيطهم، وما لبثوا حتى توسّع إنتاجهم ليوصلهم إلى الثراء. وما إن حصل ذلك حتّى قاموا بالميل إلى السكون والتعاون أكثر فأكثر، فزادت أقواتهم، وتألقت ملابسهم، وتوسعت منازلهم وبنيت المدن فتحولوا إلى الحضر وتعالى البناء نتيجة الثراء وبُنيت الأبراج والقصور، وازداد التباهي بالملبس فتنوعت أصنافه من حريرٍ وديباجٍ وغيرها من الأنواع، كما أنهم كانوا يركزون على تزويد قصورهم من المتاع الفاخر الذي كان يشمل الفرش والآنية والماعون، فقاموا بتحويل مهنهم من الرعي إلى التجارة والصناعة.

ويقول ابن خلدون في الباب الثالث، إنّ المتعارف عليه أنّ الانقلاب والرفض عادةً ما يكون بالتعصب والتذمر، وأن يسعى كل فرد في الاتجاه المعاكس للآخر، ودائما ما يكون المنصب الملكي محببا لدى الجميع لما يشمله من رفاهياتٍ عديدة، كالشهوات الجسدية والخيرات المختلفة، فمن يجد الفرصة سانحة أمامه لا يفكر ثانية واحدة ليقتنصها بل يفعل ذلك دون تردد، ولا يسمح لأي أحد أن يسرق منه هذا المنصب العظيم إلا إذا لم يستطع على قهره، وقد تُقام الحروب الكبرى فقط من أجل اعتلاء عرش المملكة.

وعلى الرغم من بديهية الصراع بين البشر إلا أنه يصعب على عامة الشعوب استيعاب فكرة الحرب من أجل العرش وذلك لأن بداية الدول غير مهمة، ففي كل الأحوال هم لم يستفيدوا شيئا، كما أنهم ليسوا الأجيال السابقة التي حضرت عصر بداية الدولة، فهم أجيال متتالية من بعدهم لم يروا شيئا من تمهيد الدول، ولكن كل ما يتوجب عليهم هو الرضوخ والاستسلام لملكهم وامتثالهم لأوامره.  

وفي الكتاب الرابع، ذكر الكاتب أنّ بناء المدن من أهم العوامل التي يدعو إليها الثراء في الحضارات والذي يعد المفهوم المعاكس للبداوة، فقد توسعت المدن وتزينت المنازل بأشكال متنوعة وقد كان هذا ناتجا عن التعاون، لأنّ زخرفة البناء تحتاج إلى العديد من الأيدي لإتقان مثل هذه القطع الفنية، كما أن ذلك ليس من الأشياء المهمة، فهي مجرد أشكال وزخارف لا فائدة منها، لذلك فلم يهتم بها الكثير إلا بعد أن أُجبروا من قِبل الملك على ذلك.

أمّا في الباب الخامس، فقد وضّح ابن خلدون أنّه على المرء أن يكون على دراية تامة بأنّ الإنسان بطبعه محتاجٌ إلى المأكل في كل الأحوال مذ يولد حتى يموت، وقد سخر الله سبحانه وتعالى كل ما في الكون لخدمة متطلبات الإنسان، وقد قال ذلك في كتبه الكريم في عدة مواضع، وقد جعل الله للبشر الاستخلاف في الأرض فضلًا منه، فمتى سعى المرء وجاهد نفسه وجد الله تعالى يُكافئه بأعظم الهدايا والعطايا، وقد يمنّ الله عليه دون أن يسعى، ومثالًا على ذلكَ هطول الأمطار الذي يُعيد للزرع الحياة.

ودائما ما يكون الكسب هو الناتج الطبيعي عن الجد والاجتهاد والسعي ومحاولة الاقتناء وحينها لن يرد الله له شيئا، ولكن هناك فرق بين الرزق والكسب، وهو أن الكسب يكون الناتج عن السعي أما الرزق فهو ما لم يسعَ العبد لتحصيله كالإرث، وقد اشترط في صحة وصفه بالرزق أن يكون مما يصح تملكه.

وذكر المؤلف في الكتاب السادس من المقدمة أنّ الله قد ميّز الإنسان بالعقل عن الدواب الأخرى، وكلما كان هناك عقل كلما صارت ضرورة العلم مُلحة على العقول الراجحة، وقد يرغم الفكر صاحبه بأن يبحث عمّا ليس عنده من المعلومات ويدفع به في طريق عالمٍ لينهل من علمه، ثم يقوم بترتيب كلما تعلمه ويرتب الأمور على بعضها البعض ليستنتج المعاني المطلوبة، وتُعد الإحاطة التي هي سببٌ في ترتيب الأفكار بداخل العقل وجمع المعلومات المتعلقة بالموضوع بأكملها وتوصيلها ببعضها البعض ملكةٌ من الله تعالى. وإن لم يُرزق الإنسان بهذه الهبة فإنه سيفتقر إلى الفهم الكامل للأمور، وهذه الملكة ما هي إلا ناتج عام للفن.

مقدم-عبد-الرحمان-ابن-خلدون.jpg

من الممكن أن يعجبك أيضاً