post

الخطّ العربي .. نزهة العيون وريحانة القلوب

ثقافة وفن الإثنين 20 ديسمبر 2021

مرآة تونس - هزار الفرشيشي 

يقول الصّفدي في مدح أحد الخطّاطين المتقنين: 
"خَطٌّ كأنَّ العُيونَ ناشِدَةٌ  
سُودَ أَناسِيهِنَّ مِن كُتُبِهْ 
أَقلامُهُ كنَّ للوَرى قَصَباً  
والسَّبقُ للمُحتَوي علَى قَصَبِهْ" 
وتغنّى الكثيرون من الشعراء والأدباء العرب غير الصفدي بجمال الخطّ العربي، الذي قال عنه الرسام والنحات الإسباني، بابلو بيكاسو: "إنّ أقصى ما وصلت إليه في فنّ الرسم وجدت الخط العربي قد سبقني إليه منذ أمد بعيد". 

 

اليونسكو .. "الخط العربي: المعارف والمهارات والممارسات"

ملف مشترك قدّمته 16 دولة قصد إدراج الخط العربي في قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، اليونسكو، للتراث غير المادي، وهذه الدول هي: تونس والأردن والإمارات والبحرين والجزائر والسعودية والعراق والسودان وسلطنة عمان وفلسطين ولبنان والكويت ومصر والمغرب وموريتانيا واليمن. وقد تم تقديم الملف في مارس 2020 بعد العمل عليه لفترة طويلة من قبل المنسقين المعنيين، واختارت الدول العربية المملكة السعودية منسقا عاما للملف تحت إشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو).
وكانت تونس قد أودعت ملف ترشيح الخط العربي قصد إدراجه على لائحة التراث غير المادي لليونسكو، وذلك بفضل جهود خبراء المعهد الوطني للتراث تحت إشراف الباحث والأستاذ المحاضر في الأنثروبولوجيا الثقافية، عماد بن صولة، بدعم من مندوب تونس الدائم لدى اليونسكو، غازي الغرايري.  
وقد ورد في قائمة الجرد الوطني للتراث اللامادي التي أعدها خبراء المعهد الوطني للتراث أن "فنون الخطّ ليست فحسب ذلك التركيب الحرفي الذي يعطي للكلمة شكلا خاصا، بحيث تبرز من خلال وظيفتها التقنية المرتبطة بالكتابة بوصفها تمثيلا للفكر وأداة تواصل، وإنّما هي أيضا، وبالأساس، ثقافة كاملة ذات أبعاد فنية ومعرفية واجتماعية ورمزية، وبالتالي فالأمر يتعلق بعنصر مركّب يتداخل فيه الوظيفي بالرمزي تداخلا يحيل على ما ينطوي عليه من ثراء وتنوّع وامتداد". 
هذا ويتألف عنصر الخط العربي حسب خبراء معهد التراث من مستويين اثنين: مستوى ظاهر ملموس يضّم عددا من الممارسات والتقنيات والمهارات القابلة للملاحظة المباشرة، ومستوى خفي لا يكشف عن نفسه بصفة معلنة شفافة، وفيه نجد جملة من المعارف والتصورات والرمزيات في أعماق ممارسيه وحملته. 
كما تتعّدد العناصر المادية وغير المادية للخط العربي باختلاف محامله من ورق وخشب وجصّ وحجارة ومعادن وقماش وغيرها من المواد، وبتنوّع الممارسة سواء كانت فنية أو حرفية أو طقسية...


وتعرّف اليونسكو التراث غير المادي أو "التراث الحي" بأنّه "الممارسات والتقاليد والمعارف والمهارات - وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية - التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثهم الثقافي". ومن أبرز أنواع "هذا التراث الثقافي غير المادي المتوارث جيلاً عن جيل" التقاليد الشفوية وفنون الأداء والممارسات الاجتماعية والطقوس والمناسبات الاحتفالية. 
وبتاريخ الثلاثاء 14 ديسمبر 2021، ضمّت المنظّمة الأممية عنصر الخط العربي إلى القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، وذلك تحت عنوان "الخط العربي: المعارف والمهارات والممارسات"، وعرّفته بأنه "فن الكتابة بالعربية بطريقة سلسة تعبيراً عن التناسق (...) والجمال". 

 

تاريخ الخطّ العربي 

يقول عبد الرحمان بن خلدون في مقدمته عن الخط: "إنه صناعة شريفة يتميز بها الإنسان عن غيره، وبها تتأدى الأغراض، لأنها المرتبة الثانية من الدلالة اللغوية". وقد تجاوز الخطّ العربي الدلالات اللغوية إلى تشكيله فنا قائم الذّات، فيقترن فن الخط بالزخرفة العربية، إذ يُستخدم لتزيين القصور والمساجد، كما يستخدم في تحلية الكتب والمخطوطات، وتحديداً في نسخ آيات القرآن الكريم. فميزة الكتابة العربية بكون حروفها متصلة، يجعل منها كتابة قابلة لاكتساب العديد من الأشكال الهندسية من خلال المدّ والتشابك والاستدارة والتداخل وغيرها من الحركات التي تنتج لوحات فنية إبداعية تميّز الخطّ العربي عن بقية اللغات. 
وعلى مرّ الأزمان، نشأت الكتابة في مركزين حضاريّين، هما بلاد ما بين النهرين ونهر النّيل أين تمّ التعرف على الخط المسماري المبتكر من طرف السومريين (3000 ق.م) والكتابة الهيروغليفية المبتكرة من طرف قدماء المصريين (3300-3200 ق.م). أمّا عن تاريخ ظهور الكتابة العربية، فتتعدّد الروايات والقراءات، وتقول أغلبها أنّه قد تمَّ اشتقاقها من الخطّ الحميري الذي يدعى المسند، حيث انتقل من اليمن إلى العراق في زمن المناذرة، وقد تعلمه أهل الحيرة وتلاهم أهل الأنبار، بعد ذلك انتقل إلى الحجاز بواسطة القوافل التجارية والمواسم الأدبية. وروى عالم أهل الشّام، الفقيه مكحول الشّامي الهذلي، أنَّ أول من وضع الخط والكتابة هم أبناء إسماعيل عليه السّلام الإخوة نفيس ونضر وتيماء ودومة، فجعلوها متصلة الحروف بما في ذلك الألف والراء، ثمَّ فرّقها هميسع وقيدار وهما أيضا من أولاد إسماعيل. 
وظهر الخط العربي كفنّ من الفنون قبل الإسلام، ثم تطور ومرّ بمراحل كثيرة بعد نزول القرآن الكريم، وتطور بشكل خاصّ في عصر الخلفاء الراشدين ثم العصر العباسي والعصر الأندلسي والعصر العثماني حتى العصر الحديث. وقد دوّن القرآن الكريم بخط أهل مكة بسبب نزوله بينهم، وهكذا أصبح خط مكة هو القلم الرسمي للقرآن، فاندثر خط المسند ونسيته العرب، إلى أن أحياه بعض المستشرقين، حيث أعادوه للاستخدام مجددا لترجمة الكتابات القديمة التي كتبت به. 

 

الإمام علي بن أبي طالب: "الخطّ الحسن يزيد الحقّ وضوحا" 

يقول المؤرخ شهاب الدّين القلقشندي: "الخط كالروح في الجسد فإذا كان الإنسان وسيما حسن الهيئة كان في العيون أعظم وفي النفوس أفهم، وإذا كان على ضد ذلك سئمته النفس ومجتهُ القلوب، فكذلك الخط إذا كان حسن الوصف مليح الرّصف مفتّح العيون أملس المتون، كثير الائتلاف قليل الاختلاف هشت إليه النفوس واشتهته الأرواح حتى إن الإنسان ليقرأه وإن كان فيه كلام دنيء ومعنى رديء مستزيدا منه ولو كان كثر من غير سآمة تلحقه. وإذا كان الخط قبيحا مجّته الافهام ولفظته العيون والأفكار وسئم قارئه وإن كان فيه من الحكمة عجائبها ومن الألفاظ غرائبها". 
فجمال المنظر من رغبات الطبع البشري الذي يرنو إلى كلّ ما هو حسن، والجمال نسبيّ يختلف باختلاف الأذواق والثقافات والبيئات. ولا شكّ أنّ حسن وصف الخطّ العربي وجمال رسومه قد بوّآه هذه المكانة، ليس فقط لدى العرب، بل إنّ سحر الخطّ العربي بأنواعه واختلافاتها قد تجاوز النّاطقين بلغة الضّاد إلى غيرهم. 
وتتعدّد أنواع الخطّ العربي، ولكلّ منها ميزة وتاريخ، لكنّنا سنذكر البعض منها، فمنها الخطّ الكوفي الذي ظهر في الكوفة بالعراق، وهو الخط الّذي يميل إلى التّربيع والهندسة. ومنها خط الرّقعة الّذي يتميز بجماله وقوّته وسهولة رسمه والسرعة عند كتابته، وهو منتشر في جميع الدول العربية واستخداماته قليلة لكنّها كثيرة في الآيات القرآنية. أمّا خطّ الثّلث، فيمتاز بالمرونة، وبتشكّل أنواع وأشكال الحروف فيه، ويمكن من خلاله كتابة جملة واحدة عدّة مرّات بأشكالٍ مختلفة. ويقلّ استخدام هذا الخطّ في القرآن ويستخدم عادة في كتابة العناوين، ويعدّ رسم هذا الخطّ صعباً. ومن أشهر الخطوط العربية كذلك نذكر الخطّ الفارسي، ومن صفات هذا الخطّ الزخرفة الموجودة فيه والليونة والأحرف الدائريّة والانحناءات. 

 

يطول الحديث في ذكر تاريخ وتطور ومحاسن ومكانة الخطّ العربي، وليس أبلغ ممّا قاله الإمام علي كرّم الله وجهه في أهمية تعلّم الخطّ العربي من الأبيات التالية: 
"تعلّم قوام الخطّ يا ذا التأدب 
فما الخطّ إلّا زينة المتأدب 
فإن كنت ذا مال فخطّك زينة 
وإن كنت محتاجا فأفضل مكسب"
 

galleries/pos-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً