post

أنجيلا ميركل.. الإرادة الجيّدة تجعل للقدمين جناحين

العالم الثلاثاء 28 سبتمبر 2021

مرآة تونس – جليلة فرج

يقول المثل الألماني Viele Köche verderben den Brei "كثرة الطهاة تفسد الطبيخ". فالطبخ سويّة من الأمور الممتعة، لكن إضافة الملح والتوابل يجب أن يتولّاها شخص واحد فقط، وإلا فسد المذاق. وبالتالي فإن الشراكة لا تنجح في كل شيء وخاصة في القيادة، فإذا ما عمل خبراء كُثر في وقت واحد على أمر واحد، فإنهم يعيقون بعضهم بعضا. ولذلك فإن الأدوار والواجبات في أماكن العمل بألمانيا تمتاز بدقة التنظيم وحسن توزيع الوظائف والمسؤوليات.

ولأنها حاذقة في الطبخ وفنونه، فهي تعي جيّدا معنى هذا المثل، وفرضت نفسها بقوّة عزيمتها وإصرارها على تحقيق أهدافها، وأثبتت براعتها في تسوية كلّ الملفات. وصارت تلقب بالمرأة الحديدية لمواقفها الصارمة ومنهجها العلمي الجاف مقارنة بالعمل السياسي التقليدي، كما يطلق عليها الألمان لقب "الأم"، لما يجدون فيها من عاطفة وتفاعل مع حاجياتهم الاجتماعية، إنها أنجيلا دوروثيا كاسنر أو كما تُعرف بأنجيلا ميركل وهو لقب زوجها الأول الذي احتفظت به إلى اليوم.

أسدل الستار على مشوارها السياسي الطويل الذي دام نحو 16 عاما في المنصب الذي تولته كأول امرأة في تاريخ ألمانيا. وخلت الانتخابات الألمانية التي أجريت يوم الأحد 26 سبتمبر 2021، من اسم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

حب القيادة

رغم أنها تعلمت بسرعة كيف تتحدّث منذ الصغر، إلا أنها تُعرف في محيط عملها بأنها قليلة الكلام، كثيرة الأفعال. حب القيادة كان يراودها منذ طفولتها، وكانت تنزع إلى التسلط على أخيها الأصغر، حتى حولته إلى ساع، كانت تصدر الأوامر، وكان يأتي لها بكل ما تطلبه. وتطوّرت رغبتها في القيادة شيئا فشيئا وكانت تريد أن تصبح معلمة، لتتولى القيادة ولو بشكل غير مباشر، ولكنها استطاعت أن تسيطر على شعب بأكمله وعلى دولة ازدهرت في عهدها وأصبحت من أقوى دول العالم.

عملت فيزيائية قبل أن تلتحق بعالم السياسة وكثيرا ما استخدمت مهاراتها العلمية في عملها السياسي، فاختصاصها في الفيزياء والكيمياء جعلها تقوم بخلطات ناجعة للبلاد وللعالم وكانت قائدة منهجية وتحليلية، ولفترة طويلة أحب الناخبون نهجها الثابت.

عالم السياسة

فور سقوط جدار برلين عام 1989 انضمت ميركل إلى الحزب المسيحي الديمقراطي، وعينت في حكومة هلموت كول وزيرة للمرأة والشباب، ثم وزيرة للبيئة والسلامة النووية. وأجبرت العديد من أعضاء حزبها على الإذعان لإرادتها بعد أن هزمت عملاق الحزب هلموت كول وتزعمت الحزب عام 2000.

وأصبحت ميركل أول امرأة تتولّى منصب مستشارة ألمانيا في 2005، والأولى التي تحكم دولة أوروبية كبرى منذ عهد رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر، وأول رئيسة حكومة تنحدر من ألمانيا الشرقية سابقا، ومنذ ذلك الحين لعبت دورا رئيسيا في معالجة الأزمات العالمية. وفي عام 2007 ترأست ميركل المجلس الأوربي ومجموعة الثماني، وهي ثاني امرأة تشغل هذا المنصب.

كانت ميركل عامل استقرار لألمانيا ولقيت ترحيبا دوليا باعتبارها أقوى امرأة في العالم، وكونها واحدة من أكثر الساسة نفوذا عالميا. لعبت ميركل دورا ملموسا في تحديد مسار السياسة الأوروبية والعالمية. وخلال 16 عاما من عملها كمستشارة لألمانيا، كان لها تأثير كبير على بلدها، حيث جعلت حياة الملايين من المواطنين أفضل مما كانت عليه.

الأزمة الاقتصادية

ولأنها تتصف بالعقلنة والهدوء الذكي، عرفت ميركل كيف تتخطى أزمة اليورو وعاصفة المهاجرين وأزمة الكورونا، وحققت نجاحات متتالية.

وصفت بأنها أقوى امرأة في العالم نظرا لبقائها في الحكم مدة طويلة ولنجاحها الاقتصادي الباهر وصمود ألمانيا أمام الأزمة الاقتصادية العالمية التي أصابت أغلب دول أوروبا بالركود، وكادت أن تودي بأخرى إلى الإفلاس. ولكن صورة ميركل مختلفة في دول مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا، إذ تصفها وسائل الإعلام هناك بالشدة والتجبر، لأنها فرضت، من خلال الاتحاد الأوروبي، على هذه الدول إجراءات تقشف مالية صارمة، عانت منها طبقات اجتماعية واسعة.

وأصبحت ميركل بسبب أزمة اليورو رمزا للتقشف النقدي، إذ شملت الوصفة التي اعتمدتها للتصدي للأزمة خفضا كبيرا في ميزانيات الدول المتأثرة بالأزمة ورقابة حازمة من جانب الاتحاد الاوروبي، واعتبرت هذه السياسات العلاج الناجع للديون المزمنة التي تعاني منها دول جنوب أوروبا.

وتتلخص رسالة ميركل في أن الدول المثقلة بالديون مثل اليونان وإيرلندا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال لن تنجح في العودة إلى التنافسية الدولية إلا بعد أن توازن ميزانياتها وتخفض المبالغ التي تنفقها على الخدمات العامة.

وتحمّلت ألمانيا، أقوى اقتصادات أوروبا، القسط المالي الأكبر في برامج الإنقاذ التي قدمها الاتحاد الاوروبي للدول الغارقة في الديون، ولذا فإن ميركل هي التي حددت برامج العمل في الجهود التي بذلها الاتحاد الأوروبي لاستعادة الثقة في العملة الموحدة اليورو.

وعام 2014 قادت ميركل زعماء العالم في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم وفعلت ذلك رغم أنه أضر بالمصالح التجارية لألمانيا. وفي عام 2015 توسطت في عملية إنقاذ كبيرة لليونان بعد أن وجدت البلاد نفسها في ديون خطيرة وساعد ذلك في الحفاظ على منطقة اليورو من الانهيار.

ملف اللاجئين

لطالما اعتمدت ألمانيا على المهاجرين لملء الوظائف والحفاظ على استمرار الاقتصاد وضمان النمو السكاني (نسبة كبيرة منهم من المسنين) منذ أن جاء "الضيف التركي" للمساعدة في إعادة بناء البلاد عقب الحرب العالمية الثانية.

وفاجأت المستشارة الألمانية العالم حين فتحت حدود بلادها لجميع اللاجئين عندما اشتدت أزمة المهاجرين الهاربين من الحروب والمجاعة نحو أوروبا، ومقتل الآلاف منهم في البحر الأبيض المتوسط.

وواجهت ميركل معارضة كبيرة في بلادها بعد دخول أكثر من مليون لاجئ ومهاجر إلى ألمانيا، وتراجعت شعبيتها في الانتخابات، لكنها تمسّكت بموقفها من اللاجئين ورحبّت بهم وخصصت مليارات الأورو لإسكانهم ورعايتهم.

التصدّي لأزمة كورونا

وفي مواجهة التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا، رأت المستشارة ميركل أنه دون اتخاذ إجراء جريء فإن سلامة الاتحاد الأوروبي مهدّدة مرّة أخرى.

ووقّعت ألمانيا لإنشاء صندوق انتعاش تاريخي بمليارات الدولارات ساعد في تحمل ديون الاتحاد الأوروبي الأكثر فقرا والتي تضرّرت بشدّة من الوباء.

مساندة الديمقراطية

ساندت ألمانيا الثورة التونسية منذ عام 2011، ولطالما عبّرت ميركل عن استعدادها لمواصلة تطوير علاقات بلادها الاقتصادية واستثماراتها في تونس.

وأعربت الخارجية الألمانية، مؤخرا عن قلقها المتزايد من الإجراءات الأحداية الجانب التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيد. وأكد وزير الدولة الألماني للشؤون الخارجية ميجيل بيرجر، ''حاجة تونس الماسة إلى حكومة جديدة، وخارطة طريق لإصلاح دستوري حاسم". وشدّد بيرجر، على ضرورة احترام سيادة القانون ودور البرلمان.

ولأنها تؤمن بالديمقراطية وتساند الأحرار في كل الدول، كانت ميركل ضدّ انقلاب السيسي وتجاهلت قائد الانقلاب العسكري السيسي أثناء المشاورات المنعقدة على هامش مؤتمر دافوس بسويسرا، كما أنه لم يحض بترحيب عندما زار ألمانيا.

التداول السلمي على السلطة

بعد 4 ولايات متتالية استمرت 16 عاما (فترة أولى في 2005، فترة ثانية في 2009، فترة ثالثة في 2013 وفترة رابعة في 2017)، غادرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منصبها بعد الانتخابات البرلمانية في 26 سبتمبر. وكانت ميركل أعلنت في عام 2018 أنها ستتنحى عن منصبها كزعيمة لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، ولن تسعى لإعادة انتخابها كمستشارة في عام 2021.

ومبدأ التداول على السلطة هو درس آخر تقدّمه الزعيمة ميركل إضافة للعقلانية والهدوء الذكي وتحدّي العاصفة الاقتصادية والسياسية والديبلوماسية النشيطة وثقلها الاقتصادي عالميا.

والأكيد أن ألمانيا لن تسقط بعد انسحاب ميركل من عالم السياسة، لأن الدول الديمقراطية لا ترتكز على الأشخاص.

وبالتالي كانت هذه الـ16 عاما من القيادة ناجحة، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل في بناء دول تهيأت لمستقبل يمكن أن يكون صعبا. وتجسّد إرث ميركل في التفكير العقلاني والبراغماتي الموجّه نحو الحلول، في عالم تقوده أكثر فأكثر شخصيات تتبنى نهجا إما قوميا أو غير عقلاني أو نرجسيا أو شعبويا. وخلاصة الكلام قدّمت أنجيلا ميركل لبلدها وللعالم أكثر ممّا كان متوقعا من زعيمة هادئة الصوت في عالم مضطرب ومتغيّر.

 

galleries/نجلا-مركل-الراد-الجد-تجعل-للقدمن-جناحن-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً