post

التطهير الثقافي وغسل ذاكرة الشعوب.. حروب من نوع آخر

ثقافة وفن الجمعة 25 مارس 2022

التراث المدمر: كنوز الإنسانية التي شوهها جنون البشر.. كتاب يبحث في الأسباب الخفية لاستهداف التراث الثقافي للشعوب والدول، للكاتب منير بوشناقي، ترجمة سهيل الشملي، الناشر: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 2022، ويتضمن 307 صفحة.

وينزّل هذا الأثر ضمن جهد المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم للتوعية بأهمية التراث الثقافي العربي وبرامج حمايته وترميمه، ويوسّع آفاقه في الآن نفسه ليشمل التراث الإسلامي والإنساني عامة، فيستعيد معنا كاتبه الخبير منير بوشناقي رحلاته الميدانية التي عاين فيها ما يتعرّض له التراث الثقافي في عديد البلدان من الانتهاكات الجسيمة. ويحاول أن يبحث عن صيغ ممكنة لحفظه للأجيال القادمة، فجاء أقرب إلى الشهادة الذاتيّة على واقع يغرق في النزاعات المسلحة التي أصبحت تتقصّد العبث بذاكرة الشعوب، وتراث الإنسانيّة، ضمن سعيها إلى ما يسميه الكاتب بالتطهير الثقافي، الذي يبدأ بمحاولة غسل ذاكرة الشعوب.

فيروسات تهاجم الذاكرة الإنسانية وتعمل على محوها

ضمن مدخل يعنونه بأخبار عاجلة، يحاول الكاتب أن يحفّز وجدان القارئ حتى لا يتلقى الكتاب ببرودة الباحث الذي يتعامل مع الدراسات العلمية ذات الأسس العقلية. فالأمر حارق يقتضي تفاعلا وجدانيا ينفض الغبار عن أحداث رهيبة أصابت التراث الإنساني ثم طواها النسيان، ويحاكي الأخبار العاجلة التي تتسابق وكالات الأنباء والقنوات التلفزيونية لعرضها.

استباحة التراث اللبناني أيام الحرب الأهلية

ضمن جولة تأخذ القارئ إلى المناطق الساخنة، يعرض بوشناقي تاريخ التدمير الممنهج الذي تعرض له التراث اللبناني في الحرب الأهلية، ويبدأ بما أصاب متحفها الوطني ببيروت الذي يقع في ما سمّي بـ"خطّ التماسّ" بين الأطراف المتنازعة. وفي سنوات القلاقل والاضطرابات، أُغلق المتحف واتخذت بعض الإجراءات الاحتياطيّة؛ كنقل بعض القطع إلى أماكن أكثر أمنا، لا سيما بعد معارك1978 التي احتلّ فيها الطابق الرئيسيّ والقبو.

وفي الثمانينيات من القرن العشرين، غُطّيت المجموعات المعروضة في الطابق الأرضيّ من المتحف بالرمل ثم بقالب من الإسمنت المسلّح. ومع ذلك احتلّ من قبل الفصائل المتنازعة وأضحى عرضة للقصف من كلّ جهة. ولكنه تعرّض في شهر نيسان (أبريل) من سنة 1981، إلى سرقات موجعة، خاصّة قاعة العرض التي تضمّ قطعا من الجِعْلان والأختام الاسطوانيّة، تعود إلى الألفيّة الرابعة قبل الميلاد. ثم مثّل اجتياح قوات الجيش الإسرائيلي لجنوب لبنان سنة 1982 في العمليّة الموسومة بـ"السلام في الجليل"، ثم احتلال العاصمة بيروت الكارثة الكبرى. فقد نُهب وخُلعت مكاتب إدارته، وثَقَبَ القصفُ السقفَ وتهشّمت صناديق تحتوي على قطع أثريّة. وفي سنة1990، في أثناء المعارك الدائرة بين الجيش اللبناني والمليشيات، أصيبت المكاتب والمكتبة مرّة أخرى وعصفت القذائف بقاعة التوثيق. واستهدفت التوابيت الحجريّة الهلنستيّة التي تزيّن مدخله، وأطلقت أيادي مافيا تجارة الآثار، فنُهبت الواجهات التي كانت تضمّ قطعا من البرونز تعود إلى العهد البيزنطيّ، وقطعا من الفخّار ترجع إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تدمير التراث الأفغاني 

لحركة طالبان مشكلة عميقة مع تراثها الثقافي؛ فهي تجده متعارضا مع فهمها الضيّق للإسلام وتعمل على التخلّص منه بالإهمال، فيُترك عرضة للتخريب والنهب والحفريات العشوائيّة والوحشية أو بالتدمير؛ فقد تعرّضت التماثيل والتماثيل النصفيّة التي تعود إلى التقاليد البوذيّة للتهشيم بالفؤوس. ولكن يبقى تدمير تمثالي بوذا بوادي باميان، في قلب جبال الهندو ـ كوش خلال شهر مارس 2001، بعد مرسوم الملّا عمر زعيم طالبان بموجب مرسوم 26 فيفري 2001 بتدميرهما، الأكثر وحشية واستعراضا، فالتمثالان الضخمان منحوتان في الصخر الرملي الذي يتكوّن منه جرف مُشرف على المدينة من جهة الشمال، ويعود تاريخ إنشائهما إلى القرنين الثالث أو الرابع، ويبلغ ارتفاع أقدمهما وأكبرهما ثمانية وثلاثين مترا، بينما يبلغ ارتفاع الثاني خمسين مترا، وبجانبهما متاهة منقورة في الصخر بإتقان وتضمّ خلوات الكهّان ومواقع التّعبّد. وكان المركز البوذي آية في الروعة والجمال، وكان التمثالان من أعظم أعاجيب باميان. ورغم أن العالم بأسره اهتز لهذا القرار وسعى إلى منعه، لم يجد تدخّل كوفي عنان الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، ولا نداء بعض رموز الإسلام السني كالشيخ يوسف القرضاوي أو شيخ الأزهر نفعا.

آثار العراق تُدمّر بفعل حروب الخليج المتلاحقة

أنشئ متحف بغداد سنة 1922، وكان يحظى بسمعة عالمية مرموقة لما فيه من القطع النادرة الّتي تعود إلى حضارة بلاد الرّافدين، ولكنه تعرض بعد حرب الخليج الأولى إلى اجتياح كاسح للنّمل الأبيض الذي ينخر قطعه الخشبيّة.

وتعود الصلة بين هذا الاجتياح والحرب، إلى تدمير القصف الجوّي لنظام التّكييف المركزيّ للمتحف الذي كان يحميه من درجة الحرارة المرتفعة والرطوبة العالية. وفي مركز المحافظة على المخطوطات في بغداد، عجزت الدوائر المسؤولة عن متابعة ترميم القديم منها؛ بسبب عدم توفّر المحلول المُذيب والغِراء و"الورق اليابانيّ".

وفاقمت العقوبات المسلطة على العراق حينها من الوضع؛ فقد حُظر عليه استيراد أيّة مادّة كيميائيّة من شأنها وفقا للخبراء الاستراتيجيّين الأمريكيين، أن تساعد نظامَ صدّام حسين، في إنتاج أسلحة الدّمار الشّامل، وكان خرب هذا التراث عاما في حرب الخليج الثّانية.

فرغم تذكير اليونسكو للولايات المتحدة بما تنصّ عليه اتفاقية لاهاي بشأن حماية الممتلكات الثّقافية في حالة نزاع مسلّح لسنة 1954، وتذكيرها لها بأنّ العراق جزء من الهلال الخصيب، الثري بممتلكاته التراثية الثقافية، ورغم تقديمها لائحة لأهم المواقع الأثريّة، مثل بابلونينوى، والحضر، وآشور، وسامرّاء، وطيسفون، والوركاء، وواسط، والأخيضر، وكربلاء، والنّجف، تعاملت الولايات المتحدة مع الأمر بكثير من الإهمال والتراخي. فقد كان همها حماية آبار النّفط ووزارته.

أما المعالم الثقافية والمتاحف، فتركت للعابثين ليجربوا فيها فوضى رامسفالد الخلاقة. ولا يمكن للجيش الأمريكي التنصل من المسؤولية، وهو الذي يعلم أنّ أربع آلاف قطعة أثريّة فُقِدت في جنوب العراق؛ إثر عمليات النّهب الّتي عقبت الانتفاضة الشّيعيّة بعد حرب الخليج الأولى. وتدعّم شهادة جابر خليل إبراهيم، مدير هيئة الآثار والمتاحف العراقيّة هذا الموقف. يقول: "أنا عاجز تماما عن وصف سلوك الأمريكيّين. كانوا موجودين في الحيّ، وظلّوا مكتوفي الأيدي".

تراث القدس المستباح

جعل الاحتلال الإسرائيلي التراث الثقافي في القدس ذا القيمة الرمزيّة العالية في الدّيانات التّوحيديّة الثّلاث مستباحا، رغم تسجيل هذه المدينة في قائمة التراث العالمي، وعلى لائحة التراث العالمي المعرّض للخطر؛ فقد أدت الحفريات الأثريّة التي قامت بها السّلطات الإسرائيليّة مثلا، إلى انهيار مدرّج باب المغاربة خلال شتاء2004-2005. ولعل هذه الاستهانة بالتراث العربي والإسلامي فيها وفي مختلف أصقاع العالم، ما جعل السيّدة إيرينا بوكوفا المديرة العامّة لمنظّمة اليونسكو تقول في تقديم الكتاب: "في التاريخ الحديث، لم يُدمّر التراث الإنسانيّ قطّ مثلما دُمّر في الشرق الأوسط حاليّا. وبصفتي مديرة عامّة لليونسكو، ندّدت بلا هوادة بهذا التدمير المتعمّد للتراث، معتبرة ذلك جريمة حرب، بل خطّة حرب كاملة الشروط، تندرج، اليوم، في استراتيجيّة تصفية ثقافيّة كليّة تستهدف في الآن نفسه الأرواحَ البشريّة ومقرّاتِ التعليم والثقافة وحريّةَ التعبير".

الاعتداء الناعم وجه آخر من تدمير التراث

لا يقتصر استهداف رموز الثقافة التي تهدد هويّة الشعوب على الحرب، فبعض هيئات الترميم وصيانة التراث تعمد إلى الصرامة البالغة التي تحول أيّ تجديد إبداعي. ومقابل ما تفرضه من قوانين شكليّة، خاصة عند تجديد الواجهات، تطلق الأيادي لتهيئة الأفضية الدّاخلية، وفق صيغ المعمار على نحو معاصر، في تجاهل تام لأصله التاريخي وروح التراث فيه، لتكون تلك الصرامة ذرّا للرماد على العيون؛ ففي مدن أوروبا اليوم، في بولونيا وإيطاليا مثلا، تختفي وراء واجهات العمارات السكنيّة القديمة متاجر كبرى فتضفي صبغة بورجوازيّة ناشئة عن المضاربة العقارية، وتسلبها روح التاريخ وخصوصية المعلم التراثية.

يعرض الكاتب نماذج من عمليات تلافي ما يتعرض له التراث من التخريب، فقد جُعلت إعادة تأهيل المتحف الوطني اللبناني غاية ذات أولويّة، وسُخرت له مختلف الإمكانات؛ فرُمّم ترميما كاملا وأنشئ فيه مخبر حديث.

وبحكم موقعه الاستراتيجيّ بين أحياء بيروت الغربية وبيروت الشرقيّة، اكتسب تجديده بعدا رمزيّا دالّا على التصالح بين الطوائف. ولكن مثل هذا الإنجاز لا يتاح دائما؛ فقد فكّر حامد كرازاي إعادة بناء تمثالي بوذا في باميان بعد طرد الأمريكيين لطالبان. ولكنه اصطدم بالحقيقة المرة. فمثل هذا البناء لن يكفل للتمثالين صفة الأصالة ولا صفة النزاهة، وهما شرطان أساسيان لا بدّ منهما إذا كان يُراد للموقع أن يُدرج ضمن قائمة التراث العالمي، وتيقن أن أفغانستان خسرت بإتلافهما جزءا مهما من ذاكرتها ومن الذاكرة الإنسانية نهائيا.

inbound413171816173056170.jpg

من الممكن أن يعجبك أيضاً