post

النصر لمن يذهب وراء الحكمة لا لمن يتّخذ من الشعبوية منهجا له

تونس الأربعاء 27 أكتوبر 2021

مرآة تونس – جليلة فرج

على رصيف ميناء كوين ستون بإنجلترا كان الاحتفال بالغا، اصطف آلاف الناس يتأمّلون بإعجاب السفينة العملاقة وهي راسية في الميناء في قوّة وشموخ، والمسافرون، وهم يتّجهون إليها، في سعادة وكبرياء. وجاء الموعد المحدّد لبدء الرحلة، فارتفعت الأعلام، وبدأت فرق الموسيقى المحتشدة على رصيف الميناء تعزف موسيقاها المرحة وسط هتاف المودعين والمسافرين، وبدأ صوت المحرّك يعلو حتى أخذت السفينة تتحرّك لتبدأ أولى رحلاتها وسط هذا الاحتفال البهيج. ولم تكن "تيتانك" والتي تعني المارد قابلة للغرق في نظر من صمّموها فالسفينة ليست كغيرها من السفن.

ترقب العالم بلهفة ذلك الحدث التاريخي، وهو قيام تيتانك بأولى رحلاتها عبر المحيط الأطلنطي من إنجلترا إلى الولايات المتحدة في 10 أفريل 1912، ولكن السفينة التي لا تغرق ترقد في قاع المحيط. ففي اليوم الخامس من الرحلة، بدأت المخاطر تتربّص بالسفينة العملاقة ومن عليها، وتلقت حُجرة اللاسلكي بالسفينة رسائل عديدة وتحذيرات كثيرة من بعض السفن المارة بالمحيط ومن وحدات الحرس البحري تشير إلى اقتراب السفينة من الدخول في منطقة مياه جليدية مقابلة للساحل الشرقي لكندا.

وبالرغم من هذه التحذيرات العديدة التي تلقتها السفينة، لم يبد أحد من طاقمها، وخاصة قائد السفينة كابتن سميث، أي اهتمام وكانوا جميعا على ثقة بالغة بسفينتهم العملاقة التي كانت تبدوا لهم أكبر من أن يعترض شيئا طريقها.. فما بالهم يعبئون ببعض قطع من الجليد؟ ورغم أنه أدرك أن السفينة تقترب، بالفعل، من منطقة جليدية، لكن كابتن سميث لم يبد اهتماما كبيرا لهذا الأمر ودخل حجرته لينام. وفي الحقيقة وقع الكابتن في خطأ كبير بهذا التصرّف، فهو لم يفكر إطلاقا في إنقاص سرعة السفينة حيث كانت تنطلق بأقصى سرعتها، ونسي الكابتن أن كتل الجليد الضخمة قد تفاجئ سفينته في لحظات.

وبالتالي غرقت تيتانيك في الصباح الباكر من يوم 15 أفريل 1912 في شمال المحيط الأطلسي، بعد أيام من بداية رحلتها الأولى. وكان من الممكن أن ينجو أكثر من نصف المسافرين على متنها إذا تمّ استخدام كلّ قوارب النجاة الموجودة على متن السفينة، فور إصابة هيكل السفينة، إلا أن تيتانيك لم تطلق أول قارب نجاة حتى انقضت ساعة كاملة بعد الاصطدام ومات أغلب الركاب.

قصّة السفينة "تيتانيك" تشبه في تفاصيلها قصتنا التي نعيشها اليوم، فالعالم ترقّب نجاح ثورتنا المجيدة والكلّ استبشر بما وصلت إليه تونس من ديمقراطيّة وحريّة، ولكن رئيسنا انقلب على المسار الديمقراطي وصفّق له عدد من المطبّلين. واختار سعيّد أن لا يبالي بكلّ التحذيرات والرسائل القادمة من الداخل والخارج، واستمر في تعنّته واستبداده وانقلابه. ونتمنّى أن لا تغرق بنا السفينة وأن لا تكون نهايتنا شبيهة بنهاية تيتانيك وأن يستفيق رئيسنا من غفلته ويعود إلى المسار الديمقراطي وشرعية المؤسسات وإلى العمل بدستور الثورة بعد أن استفاق أغلب مسانديه وأعلنوا انحرافه عن الديمقراطية ومحاولة إدخاله البلاد في نفق مظلم لا نهاية له إلا بالحوار بين مختلف المنظمات والأحزاب والمجتمع المدني دون تقسيم بين موالين طاهرين آمنين، ومعارضين حشرات وشياطين وفئران وجرذان وخائنين ومرتشين.. على حدّ تعبير رئيسنا. 

القفز من المركب

بعد أن ساندوا قراراته في 25 جويلية، وبعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على الانقلاب، شعر الجميع بخطورة الوضع، وبدأ العديد بالقفز من المركبة بحثا عن قارب النجاة. فها هو الاتحاد العام التونسي للشغل يغيّر مواقفه، وها هم أساتذة القانون الذين اعتمدهم سعيّد في انقلابه سواء في الإجراءات الاستثنائية أو في إعلانه المرسوم 117، على غرار أمين محفوظ والصغير الزكراوي والصادق شعبان يحذّرونه من الانسياق وراء رضا لينين وجماعته الذين هم بصدد التحضير للجان شعبية لتكريس الانقلاب ويقدّمون له جدولا زمنيا لإنهاء هذا الانقلاب.

فبعد بيان الاتحاد الأوروبي، وبعد موقف الكونغرس، غيّر اتحاد الشغل آراءه وقدّم موقفا حاسما ضدّ الانقلاب، حيث أكّد أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي رفضه للجان الشعبية، وأن بناء أيّ ديمقراطية في العالم يكون بالأحزاب وأن مكانة الحزب تُحدّدها إرادة الشعب عبر صناديق الاقتراع. وأوضح الطبوبي أن الحوار يتمّ عبر الشباب الموجود داخل المجتمع المدني والمنظمات والأحزاب والتي يجب الجلوس معها على طاولة الحوار، وأن لا بديل للأحزاب وللحياة المدنية وللانتخابات وللمسار الديمقراطي. وأعلن رفضه لمحاولات تقسيم التونسيين. وأكّد أن الكتل النيابية داخل البرلمان لم تكن مسقطة، بل هي منتخبة من قبل الشعب التونسي عبر الصّندوق.

من جهته، أكّد أستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ، أنه وجب إنهاء حالة الاستثناء وأن مشاريع التعديلات للنظام السياسي يجب أن تهدف إلى التأسيس لنظام ديمقراطي حقيقي يكون فيه الشعب بالفعل هو صاحب السيادة ومصدر السلطات يمارسها بواسطة نواب منتخبين ويقوم على أساس الفصل بين السلط والتوازن الفعلي بينها ويكرّس دولة القانون ويضمن الحقوق والحريات العامة والفردية. وشدّد محفوظ على أن مشروع المراجعة للنظام السياسي لا يمكن أن يتضمن ما سمّي بـ"البناء القاعدي" أو اللجان الشعبية أو الجماهيرية.

وقال أستاذ القانون الصغير الزكراوي وهو من أشد المدافعين عن قرارات الرئيس "إن نظرية البناء القاعدي التي يبشّر بها رضا لينين وجماعته أي بناء الديمقراطية من المحليات صعودا إلى البرلمان، هي نظرية طوباوية لم تنجح في أي بلد وستفضي إلى تفكيك الدولة ترابيا. وأضاف "يبدو أننا كتونسيين سنصبح أضحوكة العالم". وأكد أن أي عاقل اليوم لن يتجرأ على التفرّد والتأسيس لمشروعه الخاص.

وبالتالي، نلاحظ في الآونة الأخيرة اجتماع المواقف المناهضة للانقلاب حيث أن أغلب الأحزاب والمنظمات والجمعيات والمجتمع المدني والمواطنين حذّروا من خطورة ما قد تصل إليه البلاد خصوصا وأن الوضع الاقتصادي على وشك الانهيار وأن رئيسنا أفسد العلاقات مع الصناديق المانحة والدول الداعمة لبلادنا.

صمود المعارضة

مواقف اتحاد الشغل تغيّرت، كما تغيّر موقف كلّ الذين استعملهم سعيّد في انقلابه من سياسيين وإعلاميين ورجال قانون وهذا يحسب للتيار المحافظ الذي انسحب بكل هدوء ليلة 25 جويلية ولم يدخل مربع العنف بل حافظ على البلاد والعباد وسوّق لمظلوميته وللتعسف الذي وقع له. أيضا هذا التغيير في المواقف يحسب لصمود الجبهة المعارضة التي ضمّت أغلب الحقوقيين والسياسيين من مختلف المشارب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وهذه خاصيّة تميّز تونس عن غيرها، حيث تميّزت تونس بالوحدة المقدّسة قبل الثورة، وعادت اليوم روح الوحدة الوطنية والاجتماع من جديد من أجل محاربة الانقلاب ومن أجل عودة الاتجاه الصحيح نحو الديمقراطية والحرية.

صحيح لا تملك الجيش ولا الأمن، ولا المال ولكن وبخطى ثابتة تتقدّم هذه الجبهة المعارضة وفي مقدمتها حملة "مواطنون ضدّ الانقلاب" التي أطلقها سياسيون ونشطاء تونسيون، نحو تجميع الآراء بعد أن كانت مشتّتة، ونجحت في توحيد الصفوف من أجل مواجهة الانقلاب ومواجهة التعسّف على المسار الديمقراطي والتفرّد بالسلطة.

وبالتالي نلاحظ عودة التنسيق والتحرك الميداني بين أغلب الأحزاب، وجمع كل الأطياف من التيار المحافظ والتيار اليساري والتيار الليبرالي..، وهذا أمر كان شبه معدوم منذ سنوات خاصة في علاقة مع أقصى اليسار.

وهذه الجبهة المعارضة للانقلاب مدعومة من لمين والأسعد البوعزيزي، الحبيب بوعجيلة، جوهر بن مبارك، عصام الشابي، نجيب الشابي، حمّه الهمامي، صابرين القوبنطيني، الصافي سعيد، رضا بالحاج، مصطفى بن جعفر، منى كريّم، إسلام حمزة، سناء وعياض بن عاشور، أحمد صواب، أحمد الرحموني، عياض اللومي، سامي براهم، سمير ديلو، محسن السوداني، عبد اللطيف المكّي.. والكثير من السياسيين والحقوقيين..، وآلاف المواطنين.

مستقبل التيار المحافظ

اليوم بعد مرور يومين عن الذكرى الشهرية الثالثة للانقلاب، لم نجد أي ملف فساد ضدّ الخصوم السياسيين وخاصة من التيار المحافظ وهو أمر مهم جدا للمستقبل السياسي لهذا التيار وخاصة التيار الثوري. وهذا ما يعطي المبرّرات الكافية للمدافعين عن حركة النهضة بأن ما كان يقال عنها طيلة 10 سنوات في علاقة بالفساد والتكسّب غير المشروع كلّه كان مجرد أوهام وكذب وافتراء، وكل الحملات الإعلامية ضدّ الخصوم باءت بالفشل لأنه إلى الآن ورغم أن كل السلط بيد الرئيس حتى القضائية منها في غالبيتها، لم يظهر أي ملف فساد لأي وزير أو والي أو معتمد من النهضة رغم التحريض بأن النهضة رأس الفساد.

الانقلاب كذلك أظهر عدم حصول أي تطوّر جديد في ملف الاغتيالات السياسية (بلعيد والبراهمي) والحال أن الشهيدين هما من أحزاب موالية للانقلاب بما يعني أن مرفق العدالة الآن رغم أنه تحت أيديهم إلا أنه لازال يقاوم ولم يخضع للإملاءات والابتزاز والتعسف على هذه القضايا.

ونلاحظ أيضا إعادة تموقع الإسلاميين في تونس على الخارطة الدولية والإشادة بما أنجزوه في البلاد على مستوى ترسيخ الديمقراطية والحريات والتعايش، فهم لم يسجنوا أي صحفي ولم يغلقوا أي قناة أو أي وسيلة إعلامية، ولم تقبع أي كلمة حرة في السجن ولم يمارسوا أي أمر خارج عن نطاق حقوق الإنسان وبالتالي تعميق العزلة الدولية لخصوم الإسلاميين الذين لم تعد لهم القدرة على مجرد الإعلان عن دعمهم للانقلاب.

الأكيد الآن أن مع كل هذه المنجزات، لو عرض على الإسلاميين تنازل آخر من أجل الوطن لرحّبوا بذلك، ولكن السياسة موازين قوى ومصالح وقدرة على التسيير والتأثير، وكل هذه المنجزات لم يتعامل معها الانقلاب، ولهذا هو يقدم الخدمات لخصومه مجانا.

والأكيد أيضا أن الشعب الحرّ لن يعود للعبودية والتبعية في تونس التي تبرز نضجا كبيرا، ونتمنى أن تمضي في المسار الصحيح لصالح الديمقراطية والتفريق بين السلط وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والوحدة المقدسة لشعبها ضدّ الشعبوية والديكتاتورية.

عزلة الانقلاب

كل القرارات والمراسيم التي أعلنها رئيس الجمهورية وسّعت من دائرة خصومه وعزّزت القوى المناهضة لمشروعه في الداخل والخارج. وورّطت خطاباته العنترية وتحدّيّاته الهلامية وردوده المستفزّة والفاقدة للديبلوماسية، بلادنا في مزيد من العزلة والإفلاس ما جعل تونس تفشل في تنظيم القمة الفرنكوفونية في جربة، وتم تجميد تونس في البرلمان الفرنكفوني، وتعدّد صدور بيانات عن منظمات دولية إضافة إلى بيان دول السبع الكبار وقرارات الكونغرس الأمريكي وما صدر من قرارات عن مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي وتصويت البرلمان الأوروبي بالأغلبية المطلقة على مشروع قرار بشأن الوضع في تونس، والذي يطالب بالتخلي عن تجميع كافة السلطات في يد شخص واحد والعودة للحوار والمسار الديمقراطي.

فالرجل الذي انتُخب تحت شعار "الشعب يريد"، والذي من المفروض أن يمثّل المصالحة الوطنية ويلمّ الشمل، وأن يمنح البلاد فرصة لإعادة الانطلاق اقتصاديا، ويمنع انهيار الدولة ومؤسساتها، حصل في ثلاثة أشهر من انقلابه أن البلاد انهارت تماما على جميع المستويات، وأصبح عالقا بين مطرقة الداخل وسندان الخارج.

وتبيّن أن ما يقوله سعيّد هو مشروع سياسي طوباوي، وأن انتظارات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية مآلها المزيد من التقهقر، وهو ما تتم ملاحظته عبر عدة مؤشرات اقتصادية.

والأكيد أن الانقلاب لن يطول كثيرا لأنه سيواجه بطون الجائعين التي ستسقط الوهم الكبير، والتي ستجنّب البلاد الوقوع في الفوضى الشاملة وسقوط الدولة لا قدر الله. والأكيد كذلك أن النصر سيكون لمن يذهب وراء الحكمة لا لمن يتّخذ من الشعبوية منهجا له.

 

galleries/n-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً