post

رسالة هادئة إلى رئيس الجمهورية

آراء السبت 13 نوفمبر 2021

بعد أن هدأت عاصفة أزمة النفايات في ولاية صفاقس ولو مؤقتا، فإنه من الواجب أن نستغل هذه الهدنة لنتدارس الموضوع بصفة هادئة ورصينة بعيدا عن التشنج والعاطفة والتخوين وتصفية الحسابات السياسية أو الجهوية، فحتى وإن وجدت كل هذه العناصر أو عدد منها صلب الأزمة فأنتم الأدري من الجميع بخبايا الأمور.

إن التدخل  الأمني إثر قرار  فتح المصب كان عنيفا جدا وكان من باب أولى وأحرى أن يقع التفاوض مع مواطني منطقة عقارب ليومين أو ثلاثة أيام واللجوء إلى الإجراءات القانونية لتجاوز التصدي لفتح المصب   وإثرها يمكن توظيف القوة غير المفرطة. فالأزمة التي تواصلت على مدى 42 يوما كان يمكن أن تتواصل يومين أو ثلاثة آخرين رغم التأخير في التعاطي معها للخروج بالحل.

إن قضية النفايات هي قضية هيكلية تقنية وليست سياسية بالأساس لكن الحلول التقنية لا يمكن تنفيذها ما لم تستند على الثقة بين الحاكم والمحكوم  خاصة وأن منسوب الثقة بينهما مفقود منذ سنوات  فنظام الحكم  في العشر سنوات الأخيرة اظهر محدوديته نظرا للفساد الذي نخره على مدى العشرية  الماضية. فعندما نقول فساد منظومة الحكم  فانه علينا أن لا  نتوقف عند الكلمة بل من واجبنا البحث عن تجلياتها الميدانية. لقد وصلت الأزمة في الوزارات إلى مداها البعيد ولعل أقصاها في وزارة البيئة والوكالات التابعة لها. فلا ديوان التطهير ولا وكالات حماية البيئة وحماية الشريط الساحلي  أحسن حال من وكالة التصرف في النفايات فكل أجهزة الدولة ضربها الفساد ونخرتها المحسوبية وقلة الكفاءة والتعيينات المشبوهة. ولو تفتح ملفات هذه الأجهزة فانه من غير المستغرب ولا المستبعد أن نكتشف كوارث أكثر مما هو موجود في ملف التصرف في النفايات والذي لن يغلق بغلق او فتح مصب القنة.

إن الحلول الوقتية التي يمكن اعتمادها لتجاوز أزمة النفايات في صفاقس بوجهيها في المدينة وفي عقارب وبقية المعتمديات ستكون لها انعكاسات بيئية واجتماعية واقتصادية مرتفعة جدا قد لا نقدر الآن على قيس مدى خطورتها فكل  القرارات التي اتخذت تحت ضغط الشارع  في ظل تنامي أزمة كانت فاتورتها باهظة. وفي كل الإجراءات التي اتخذت في عديد الأزمات التي عاشتها البلاد منذ سنة 2011 أحسن مثال على ذلك وهي كذلك من الأسباب التي قادت إلى وصول بلادنا إلى مشارف الإفلاس. فالمقترحات للخروج من الأزمة لا يجب أن تقتصر على الحلول التقنية فقط بل من الواجب دراستها من عديد الجوانب الأخرى واستشراف انعكاساتها القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومجتمعيا .

إن غياب خطة اتصالية في تناول هذا الملف منذ انطلاقته يعد اكبر النواقص التي أدت الى كل هذا الاحتقان والعنف.

وهذا الغياب صعّب  الوصول إلى حلول في الأيام الأخيرة. وحتى ما قدم منها جاءت جافة جدا  من دون  مواكبة. فالقرار الوحيد  الذي يتذكره المواطن هو قرار الغلق  ولا يتذكر اي اجراء من الاجراءات المصاحبة. إن أية عملية اتصالية توضيحية  وتفسيرية  تقوم على تقديم الحقائق دون تزيف او نقصان بحثا عن إعادة بناء الثقة المفقودة. فغياب الخطة الاتصالية  في هذه الأزمة أدى إلى رفض تام لكل ما صدر عن السلطة رغم أن بعضه صحيح في حين تم تصديق خطاب المحتجين حتى وان بعضه مستعمل  للحشد والتجييش وهذا متعارف عليه في كل الصراعات.

 وبالتوازي لم يحقق الخروج المتأخر للمسؤولين في وزارة البيئة في  الإعلام أي نتيجة  تذكر  فعنصر التوقيت إضافة إلى المردود الاتصالي الباهت لم يخدما السلطة لتطويق الأزمة وتجاوز تفاعلاتها الخطيرة.

 إن البحث عن حل للازمة لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار مصلحة كل الإطراف ولن يكون الحل على حساب احدهما حتى لا يشعر البعض بالانتصار فيما يسيطر على الطرف الآخر الشعور بالغبن .

لقد أكدت الأزمة الأخيرة ولعلها  ليست الوحيدة  غياب المواطنة وضعف الحوكمة. فالمصلحة العليا للبلاد والمصلحة العامة أصبحت لدى المواطن عناوين للنهب والاستفراد بالسلطة والفساد، وهكذا لم يعد المواطن قابلا لأي قرار ما لم يراع مصلحته الذاتية الضيقة، فبروز مفهوم جديد يقوم على أن كل بلدية لابد أن تتعامل مع نفاياتها هو تمشي خاطئ وخطير. فالتضامن والتكافل بين الإفراد والمجموعات والبلديات والمعتمديات والولايات ليس شعارا أجوف بل هو أساسي لتواصل الدولة تأمين كل الخدمات  الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

فالمرافق العمومية مهما كانت هي لكل أبناء الشعب التونسي ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقيم مصب في كل بلدية ومستشفى جامعي في كل معتمدية ومحكمة في كل قرية.

 إن الحق في بيئة سليمة مضمون في المعاهدات والمواثيق الدولية أي المنظومة الكونية لحقوق الإنسان وهو مضمون كذلك في الدستور. وهذا الحق لا يمكن أن يعطى لشخص وسحب لآخر أو لجهة ولا لأخرى او لولاية على حساب أخرى. فمبدأ المساواة بين التونسيين هو الأعلى وفي المقابل على الدولة كذلك المساعدة  على الحد من الآلام التي قد يتسببها خيار  يفرضه الواقع وتفرضه المصلحة  كما عليها  العمل وبكل ما لديها من إمكانات للحد من تأثيرات تلك الخيارات. كما  من واجبها ان تفسر وتوضح للمواطن تلك الخيارات  وأخيرا عليها ان  تحاسب كل مقصّر أو فاسد  أو عديم الكفاءة عند تنفيذ تلك الخيارات  فعدم العقاب  هو أصل الداء في بلادنا.

إن  اختزال  أزمة الحوكمة والحكم في تونس في الجانب السياسي خطئ كثيرا ما نقع فيه  نظرا  لهيمنة النقاش السياسي في العشر سنوات الأخيرة على المشهد العام للبلاد  فأوجه الأزمة عديدة ومتنوعة  ويتطلب تجاوزها توفر  عناصر عدة أهمها  عنصر الوقت وهو عنصر مفقود وعنصر الثقة في  أجهزة الدولة  وهي  مهتزة  وعنصر الوضوح  وهو غائب الى حد اليوم وعنصر الإقدام وهو العنصر الوحيد الذي تجلى يوم25 جويلية  وهو غير كاف  يبقى عنصر الانتماء فهو مهترئ.

اختم وبكل هدوء ورصانة لأقول: إن الذي يملك الصوت العالي ليس هو صاحب الرأي السديد وللجميع إمكانية إعلاء أصواتهم، والأصوات متنوعة ومختلفة.

 حافظ الهنتاتي

galleries/ازم-نفاات-صفاقس-01.png

من الممكن أن يعجبك أيضاً