post

كتاب الحب السائل لـ "زيجمونت باومان"

ثقافة وفن الجمعة 08 أفريل 2022

إنّ الحب الذي طرحه عالم الاجتماع البولندي، زيجمونت باومان، في كتابه "الحب السائل" هو حبٌّ غير الحب الذي عهِدناه، حبٌّ يتناقض مع ما قد خوَّلته لنا عقولنا وأحاسيسنا، حتَّى اختلطت بنا التعاريف وصرنا نغرق في بحر من التساؤلات عن ماهية الحب في عصرنا الحالي: هل نعيش حقّاً الآن ذلك الحبَّ الصلب؟ أم إنّها فقط علاقات افتراضية سلبت منّا المعنى الحقيقي للحب في زمن العولمة والتطور التكنولوجي؟

يأخذ باومان القرّاء معه في رحلة ممتعة من أربعة فصول، تنطلق من الخاص باتجاه العام، إذ يستهل الكاتب "شذراته الفكرية المتفرقة" بالوقوع في الحب والخروج منه: يطرح لنا الحب والموت بوصفهما الشخصيتين الرئيستين في القصة، "فالحب والموت لهما أوان، ولايدري المرء متى يأتيان. ومتى حانت ساعتهما، فإنهما يأتيان بُغتةً، يُبعثان من العدم ليقتحما مشاغلنا اليومية".

ولا يمكننا الحديث عن الحب دون التطرق إلى الرغبة، فهما شقيقان لكن مقاصدهما متعارضة، فالرغبة اشتهاءٌ للاِستهلاك والإشباع الفوري، ليس لها حوافز سوى حضور ذات أخرى وتجريدِها من آخريتها بالإغواء والوعود الجاهلة، ممارسة السادية عليها وربما إدماج الشعور بالشفقة في تحقيق الرغبة، وفور تذوقها، يليه الانصراف منها بعد التخلص من النفايات. أما الحب فهو الرعاية والحماية والإيواء والنزعة الملكية والسعي إلى الخلود عكس الرغبة. فالحب حسب باومان "بطبيعته يسعى إلى إدامة الرغبة، وأما الرغبة بطبيعتها فتهرب من قيود الحب"، ويواصل الكتاب أنّ الرغبة "إذا كانت تدمّر نفسها بنفسها، فإن الحب يديم نفسه بنفسه".

وشبّه الكاتب البولندي الرغبة بنموذج التسوق، حيث تشتهي تلك المواد والسلع الاستهلاكية التي تشبع رغباتك فوراً وبشكل سلس دون وعود كما تفعل بالمثل "بطاقات الاِئتمان"، قائلا في ذلك الصدد "إنّ علاقة الحب التي تنظر إليها باعتبارها صفقة تجارية ليست علاجاً للأرق الذي تعانيه"، ففي زمن الإشباع الفوري، وعود الارتباط لا توفِّر لك الشعور بالأمان والطمأنينة في علاقة حب تنبني على الاستثمار، فأنت دائماً مهدّد بالاستغلال وقمع الاستقلال بالذات.

ويعزو باومان فشل الحب في الغالب إلى فشل التواصل، فإنّ هناك انحرافين من أبناء الحب يتربصان بالغافل عن التواصل، الأول يتمثل في محاولة الإرضاء المتبادلة والحفاظ على هدوء العلاقة وراحتها اجتنابا للموضوعات المهمة التي تقتضي الحوار والنقاش رغم الشكوك والتساؤلات خوفاً من الاضطرابات التي قد تؤدي بالعلاقة للأُفول وتهدم السكينة بين المحبوبين.

أمّا الانحراف الثاني فهو الإفراط في الحب، هو الهيام الذي يوقظ جنونك وميولك للتملك والاستئثار بالحبيب وهو أيضاً الافتتان بالمعشوق الذي اختاره العاشق رفيقا له وحده "من بين جموع غفيرة مجهولة"، وفق تعبير الكاتب.

بعد ذلك، حسب باومان، يأتي التغير الذي يعيشه الحب فهو تغير مقبول من قبل العاشقين، ليكونا منفتحين على مغامرة المجهول وما سيقدمه لهما المستقبل، وهذه أعظم إغواءات الحب! وكل ما قد يتعرض طريقهما سيواجهانه بإعادة المحاولة لإنكار الفشل والانفصال الذي قد يهدّد علاقتهما والسير بها إلى اللامحدود الذي ينفي التنظيم ويستقبل الغموض والإثارة.

وعن نوع آخر من العلاقات السائلة وهي علاقات الجيب العلوي، فإنّ عذوبتها تكمن في أنها عابرة ولن تتعبك في الاجتهاد لبلوغ المتعة، فهي التجسيد الحقيقي للمتعة اللحظية والتخلص الفوري. وتقوم هذه العلاقات على شرطين: الأول أن تكون متيقناً واعياً أن هذه العلاقة لا تتأسس على الانجراف مع تيار الحب لأنها تخلو من الحب ولا تعترف بالحب من النظرة الأولى، بينما يجب أن تتأسس على الاستثمار والمصلحة.

أما الشرط الثاني فهو بقاؤك متيقظا لانقلاب المصلحة ضدك وفقدان الأمور سيطرتَها، فـ "لا تدعها تسقط من جيبك العلوي، فهو مكانها الطبيعي"، والجأ إلى الانتقال والمرور عند شعورك باللاأمان لأنه سيمنحك كل ألوان اللذة. فما علاقات الجيب العلوي إلا التقاء للمصالح، ومن يبحث عن شريك لتجنب فظاعة الوحدة لن يجد في هذا النوع من العلاقات سوى فظاعة وهشاشة أشد.

ومن الحب الصلب إلى الحب السائل يسافر بنا الكاتب ذهاباً وإياباً، فحنينُنا للحب الحقيقي لا مفر منه، غير أن الحب السائل يحكمنا في زمن الآلة والتقنية الحديثة، وأبسط مثال على ذلك المحادثات الافتراضية، وهي إن أمكن القول ملاذ للعديد من العلاقات الافتراضية التي استحوذت على زمننا. إذ تقوم الدردشة على تبادل الرسائل إلى مرحلة التعلق الذي هو مجرّد تعلق بالآلة ذاتها.

 

كتاب-الحب-السال.jpg

من الممكن أن يعجبك أيضاً