لو استطعنا العودة بالزمن إلى الوراء في فلسطين المحتلة، وتحديداً إلى ثلاثينيات القرن الماضي، ستجد رجلاً يحمل مجموعة من "الكوفيات" أو "الحطات" الفلسطينية القماشية، ومعها دوائر سوداء مجدولة من النسيج، أشبه بالحبال، يتم تدويرها في دائرتين وارتداؤها على الرأس مع الكوفية، تشبه إلى حد كبير تلك التي يرتديها الأشقاء في دول الخليج العربي، وهو ينادي على بضاعته قائلاً: "حطة وعقال بخمس قروش.. والندل لابس طربوش"! كان معظم المقاومين من ملح هذه الأرض: أبناء الريف، الذين يأتون إلى المدينة مرتدين ثيابهم الريفية التي يتوجها عادة "الحطة" أو "الكوفية"، مع "العقال" أحياناً، فيتم تمييزهم بسهولة، بعكس أبناء المدن الذين يرتدون عادة الطرابيش بلونها الأحمر الداكن، وملابسهم الإفرنجية.

وقتها، كان مجرد ارتداء رجل فلسطيني للكوفية أو الحطة كافياً لأن تعتقله السلطات البريطانية فيه وأن تحقق معه بقسوة بالغة، في حال تواجده في مكان عملية للمقاومة الفلسطينية، وبالتالي صار الإمساك بالثوار وتمييزهم سهلاً لسلطات الاحتلال.

قرر الثوار الفلسطينيون اعتماد هذا الزي لعموم الفلسطينيين، وتعميمه من خلال حملات التوعية الشعبية، لتتلاشى الطرابيش وتختفى معظمها عن رؤوس الفلسطينيين، ويتم استبادلها بـ"الحطة والعقال"، لتصبح في ليلة وضحاها رمزاً للمقاومة وجزءاً لا يتجزأ من هوية شعب بأكمله. وجود الكوفية أو الحطة في فلسطين، وجود موغل في القدم، لا يُعرف على وجه اليقين متى ظهرت بالضبط، ومن الذي ارتداها بهذا الشكل للمرة الأولى، إذ ترجرح بعض المصادر أنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى مدينة "الكوفة" العراقية، وأنها ظهرت للوجود، قبل ألف ثلاثمائة عام تقريباً.

لكن الباحث العراقي في التاريخ "أمين الزيدي"، يرجح أن أصلها يعود إلى سبعة آلاف عام، وتحديداً للسومريين الذين نسجوا هذه "الجفية" (بحسب لفظ أهل العراق لاسمها)، وكانوا يضعون خطوطاً سوداء متشابكة للدلالة على احترافهم الصيد النهري، بما يشبه شباك الصيد بالضبط، لتنتقل بعدها إلى بقية البلدن العربية، في مراحل تاريخية لاحقة. هذه الكوفية تحولت إلى أحد رموز الهوية الفلسطينية، مع ارتداء الثوار الفلسطينيين لها، قبل أن يرتديها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لعقود طويلة، فأصبح "آرافاتيكا" اسم الكوفية الفلسطينية في اللغة الروسية ولغات أخرى مثل "الصرب- كرواتية"، لغة البوسنة والهرسك وصربيا!